يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، يفطرون جميعاً في لحظة واحدة، ويمسكون جميعاً في لحظة واحدة، كأن المسلمين كلهم طلاب مدرسة داخلية، يجتمعون على مائدة واحدة. تراهم في المساء مسرعين إلى بيوتهم، أو قائمين على مشارف دورهم، أو على أبواب منازلهم، فإذا سمعوا طلقة المدفع، أو رأوا ضياء المنارة، أو رن في آذانهم صوت المؤذن، صاح الأولاد بنغمة واحدة موزونة: أذن. . أذن. . وانطلقوا إلى دورهم طائرين كعصافير الروض.
فإذا فرغ الناس من طعامهم، أموا المساجد، فقاموا بين يدي الله صفاً واحداً، لا غني ولا فقير، ولا صغير ولا كبير، متراصة أقدامهم، ملتحمة أكتافهم، وجباههم جميعاً على الأرض، فأين في الوجود مساواة مثل هذه المساواة؟
رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وصحة الروح، وعظمة النفس، ورضا الله.
إن الصيام من سنن الرياضيين، وسلوا كتب الرياضة، وسلوا شيخها اليوم مكفارن، ولست طبيباً ولكني جربت بنفسي، ورب مجرب أوعى من طبيب.
فأنا أحد من أضنتهم الرثية والحصوات في الكلى، وثقوا أنني راجعت في علاجها ستة وثلاثين طبيباً، أي والله، وأحسبني جربت كل علاج، فلم أجد لها مثل الصيام إلا عن الماء والحليب وعصير البرتقال.
وهذه سنة من سنن الله في الكون: من أكل أقل أصابه السل، ومن أكثر ركبته الأملاح والرثيات والنقرس، ولولا ذلك لأكل الأغنياء أكل الفقراء. تقول لهم (الطبيعة) التي طبعهم الله عليها: قفوا! فالمرض بالمرصاد، لمن نقص في الأكل أو زاد.
هذه صورة رمضان الحلوة، أفلا تستحلي معها مرارة الصورة الأخرى؟
رمضان الذي تشيع فيه خلال الخير، ويعم الحب والوئام، فإذا أردتم أن تصوموا حقاً فصوموا عن الأحقاد، واذكروا ما في أعدائكم من خلال الخير، فأحبوهم لأجلها، واغفروا لهم، وادفعوا بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينكم وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وليس يخلو أحد من خلة خير، وليس في الدنيا شر مطلق، حتى الموت! فإنها قد تمر بنا ساعات نرتجي فيها الموت، حتى إبليس فإن له مزية الثبات والذكاء. وما أمدح إبليس؛ لعنة الله على إبليس، ولكن أضرب للناس الأمثال!