ثم لاحظ في هذه المقطوعات أنه يتعرض للمكان الذي شرب عنده الخمر بالذكر، فيصفه ويصف الغمامة الدكناء والشمس المريضة: فإذا لاحظت ذلك فانك لابد واجد الاختلاف البين بين خمريات أبي نواس المطولة وبين خمريات ابن خفاجة القصيرة. فلعلك ترى أن ابن خفاجة لا يجعل الخمر ولا غيرها موضوعا يقول فيه الشعر، ولكنه يجعل مناظر الطبيعة ومتفرجاتها موضوعاً يتكلم عنه ويصفه، ثم يتعرض في أثناء وصفه إياه إلى الخمر الحمراء والى كؤوسها البيضاء بالوصف، ويتعرض إلى الساقي والشاربين بالذكر، فيكون من ذلك صورة قوم عاكفين على الشراب في أخريات النهار أو في رائعة الصباح على ضفاف الجداول في ظل الأدواح وبين العرار والاقاح.
هذا هو الفرق، تدركه حين تعلم أن أبا نواس كان مغرما بالخمر وان ابن خفاجة كان مغرما بالطبيعة، وان أبا نواس كانيقصد إلى الخمر قصدا فينشئ القصيدة فيها، وان ابن خفاجة كان يقصد الى الطبيعة قصداً فينشئ المقطوعة فيها، وحين تعلم أن أبا نواس في خمرياته يقصد إلى خمارة البلد فيدخلها ويشرب ويصف مجلسه فيها والخمر التي يتناولها والكؤوس التي يرشف منها، وان ابن خفاجة كان يقصد إلى المتفرجات والمناظر فيصفها ويصف مجلسه فيها، وحين تعلم أن أبا نواس كان يشرب ويكثر من الشرب في الحانات أو في المنازل في كل وقت حتى يسكر وتميل به الكأس، وان ابن خفاجة لا يشرب إلا حين يدعوه جمال المنظر ورقة النسيم واعتدال الإقليم.
فأبو نواس حين يصف الخمر كابن خفاجة حين يصف الطبيعة، وابن خفاجة كأبي نواس في الإقلاع عن الخمر وفي التوبة عنها يحسنان وصفها ويجيدانه: فيقول أبو نواس:
وقلت لساقيها أجزها فلم أكن ... ليأبى أمير المؤمنين واشربا
فجوزها عني سلافا ترى لها ... إلى الأفق الأعلى شعاعا مطنبا
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا