يا حبذا نادى المدام ومجتلي ... سر السرور به ومسلى الأنفس
ولئن كففت عن المدام فان لي ... نفساً تهش بصدر ذاك المجلس
لولا الحياء من المشيب لقبلت ... ثغر الحباب به وعين النرجس
فهو يتأوه ويقول: يا حبذا نادى المدام حيث السرور وحيث الطرب، ولئن كنت قد كففت عن الشراب وأقلعت عنه فأن لي نفساً تهش إليه مع الصدور، وتحن إليه على البعد، ولولا حيائي من المشيب لقبلت ثغر الحباب، وحضرت مجالس الأحباب، ويقول كذلك:
صحا عن اللهو صاح عافه خلقا ... فقام يخلع سربالا له خلقا
وعطل الكأس من شقراء سابحة ... ألا كفاها بريعان الصبا طلقا
ورب ليلة وصل قد لهوت بها ... مغازلا فلقا أو شاربا شفقا
فهو يقول: لقد صحوت عن اللهو وعفته. وقمت أخلع سرباله الخلق الرث، وقد عطلت الكأس من الخمر الشقراء بعد أن كانت في ريعان الصبا طليقة غير معطلة، ومقربة غير مبعدة، وموصولة غير مقطوعة: إلى هنا يمسك نفسه عن تذكر الماضي ولكنه بعد ذلك لا يرى بداً من ذكره فيقول، ورب ليلة قد أجتمع لي فيها خمر حمراء ووجه جميل، فكنت أقضيها بين مغازلة صباح وضاء، وبين رشف شفق أحمر.
وهو في القطعة الأولى جعل لأحباب ثغراً وأنه لولا المشيب لقبله، وفي القطعة الثانية شبه الخمر بالشفق الأحمر؛ والثغر والشفق منظران من مناظر الطبيعة.
هذا ما وعدناك به في هذا الفصل، فهل ارتحت إليه وهل أعجبت بشعر ابن خفاجة حين يذكر الخمر ويذكر معها جمال الوقت واعتدال الزمان فيسكرك بوصفه الخمر ويطربك بوصفه الطبيعة: (له رشفها دوني ولي دونه السكر)
وكأني بك تتمايل من شدة الطرب وتترنح من شعر ابن خفاجة كما ترنح العباس بن الأحنف حين سمع قول ابن الدمينة يتشوق إلى نجد:
إلا ياصبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
إذا كان ذلك فاسمع إذن هذه المقطوعة في الخمر:
ندى النسيم فما ارق وأعطر ... وهفا القضيب فما أغض وانظرا
فزففتها بكراً إذا قبلتها ... ألقت على وجهي قناعا احمرا