كان هذا الكتاب - وهو حلقة من سلسلة لجنة النشر للجامعيين - مفاجأة كاملة لي. فأنا أعرف مؤلفه الشاب، فأعرف أنه أديب مجتهد؛ وقد قرأت له ما سمح وقتي المحدود بقراءته من كتبه الكثيرة التي يتجه بها غالبا إلى التاريخ الإسلامي ليعيد عرض وقائعه الجافة في صورة قصصية يحافظ فيها على دقة التاريخ مع سهولة العرض وتشويقه، وهو عمل نافع مشكور.
وقرأت له قصته الأولى عن: أحمس بطل الاستقلال، وهي لا تبشر بشيء! ثم قرأت - على وجه الخصوص - كتابه (في الوظيفة) وأعجبني فيه قدرته على التصوير السريع باللمسات الخاطفة، وقلت عنه في عدد (الرسالة) بتاريخ ٢٢ يناير ١٩٤٥:
(إن صاحب هذه الصور الانتقادية موهوب في فن التصوير السريع. ومهما أخذت عليه من عيوب في عمله الفني، فإنك لن تخطئ الملامح التي يريدها، والسحنة التي يبغيها، وهذا وحده يكفي.
(إنه ذو عين لماحة، تسجل الحركة الحسية، كما تسجل الحركة النفسية. ثم تغلف اللمحة المرسومة بروح السخرية، وتمزجها بعنصر الفكاهة، حتى ليخيل إليك أنه ينظر إلى الدنيا كما ينظر إلى ملهاة كبيرة؛ تأخذ عينه فيها لمحات التناقض، وتأخذ حسه فيها مواضع السخرية، وتأخذ نفسه فيها مواطن الدعابة. . .)
ولكن هذا كله شيء، و (همزات الشياطين) شيء آخر، ومع أنها موسومة بهذه السمة التي عبرت عنها في تلك الفقرات، إلا أن الشقة بينها وبين جميع أعمال المؤلف الشاب بعيدة، فهي وثبة واسعة المدى، لا بالقياس إلى جميع أعماله، بل بالقياس إلى أقصى ما كان يتوقعه الناقد لهذه الأعمال!
وقبل أن أبعد في طريق التعميم أخصص ماذا أعني بأنه وثبة واسعة المدى: تحتوي هذه