أكتب هذه الكلمة والمطر يهطل منذ ثلاث ليال، ما أنقطع خيطه، ولا سكت صوته، أقبل بعد سنة مضت، شحت فيها السماء، وضنت السحب، فرح به الناس واستبشروا، وانتظروا عاماً خيراً مباركاً، يغاث فيه الناس، ويأتيهم الفرج بعد الشدة؛ غير أن الخير إن زاد عن حده، كاد ينقلب إلى ضده، وكذلك المطر لما استمر صار الناس يسألون، الله الجفاف، ويتمنون لو تطلع الشمس، والشمس ما تطلع، والمطر ما ينقطع. . .
ووكفت السقوف، ونزت الجدران، واساقطت غرف، وسالت طرق الجبل أودية، فامتلأت بالحصى والحجارة، وغدت أباطح، ووقف سيلها الدفاع السيارات وحافلات الترام، واختبأ الناس في البيوت، وما تكاد البيوت تمنع برداً ولا بللاً، ونال حي المهاجرين (على سفح جبل قاسيون) ما لم ينل مثله حياً في دمشق، وحي المهاجرين نصفه قصور من الصخر شامخات، ذات طبقات كثر وشرفات، ونصفه دور لمساكين، هي أكواخ من اللبن والطين، وما في بلدنا مكان يلتقي فيه الفقر المدقع المتجمل الصابر، والغني السفيه الوقح المبذر، كما يلتقيان وجهاً لوجه في المهاجرين. أما بيوت الأغنياء فما أحست المطر ولا درت به، ونام من فيها على الفخم الأسرة ووثير الفرش، لا يعنيهم من خبر السماء وخبر الأرض إلا أن تشبع بطونهم، وتمتلئ صناديقهم، ويسلم لهم أولادهم وأهلوهم، وأما أكواخ الفقراء، فقد صبرت على المطر صبر الكريم، واحتملت ليلة وليلتين. فلما جاوز الحمل الطاقة، خرت في المعركة، كما يخر البطل الشهيد، وخرج من بقي من ساكنيها فراراً منها حين لم تعد دوراً وإنما صارت بركاً ومستنقعات. . .
وسمعت في الليل هزة، اهتزت أهل الدور، ورجفت منها القلوب، فقمت أستقرئ الخبر، فإذا دار جيراننا قد هوت. . .
. . . ومضت ساعة، وأهل الحمية من الناس يعملون في الوحل والمطر والبرد، ليواسوا أسرة نزل بها القضاء، وينقذوا ما يستطيعون إنقاذه، من فرشها ومواعينها، وذلك القصر ينظر إلينا ثم يعرض عنا، قد شغلته حفلة أقامها تلك الليلة لا أدري فيم أقامها، ولا تزال