يا لقسوة الحياة حين تستلب الطائر الغريد من حريته فترغمه على أن يعيش سجيناً يضطرب في قفص، يدف بجناحيه بين السياج فلا يستطيع أن ينشرهما. يرى الهواء والماء والشجر من وراء القضبان ولا يجد لذتها، ويحاول - في وحدته - أن يترنم بإلحان الغابة الشجية فلا تنبعث منه إلا صيحات الأسى والألم، ثم ينطوي على نفسه في يأس يستشعر الحزن والكمد، فالباب مغلق من دونه وماله طلقة بأن يظهره. ولكنه - وهو في سجنه - لا ينسى أن يسرِّي عن نفسه بعض ما يضنيها فيعبث بها ويعبث منها.
مازلت - يا صاحبي - أذكر يوم أن حدثني أبي حديث سفري إلى القاهرة لألتحق بالأزهر. فلقد كان لكلماته - إذ ذاك - نغم حلو يبعث في نفسي اللذة والطرب، ويشيع في قلبي السعادة والنشوة، ويملأ جوانحي مرحاً وسروراً وطافت برأسي أخيلة جميلة جذابة فتراءيت في عين نفسي شيخاً فيه المهابة والوقار، وفيه الهدوء والرزانة، على وجهه سيما العفة والطهر، يدخل الأزهر في صمت ويجلس إلى شيخه في خشوع، يتأنق في جبته، ويختال في عمامته فابتسمتُ. . . ابتسمت حين أحسست بالسمو والعظمة، فما في صاحبي من رأي القاهرة أو دخل الأزهر ولا مَن لبِس العمامة أو جلس إلى شيخ. ولكن أين أنا الآن مما كان في خيالي؟ لقد كان حلماً جميلاً يوشك الآن أن ينطفئألقه، فأنا أشعر كأنني أعيش وحدي في ناحية من الأرض لا أعرف عنها شيئاً لا أتفاعل معها ولا تجذبني هي إليها. وأنا أحس الضيق والملل حين أجدني بعيداًعن داري وأهلي لا أرى أبي ولا المس عطف أمي ولا استمتع بالحديث إلى رفاقي في القرية
ومرت الأيام وأنا في القاهرة أعيش مثلما يعيش الطائر الغريد سُجن في قفص، فلا أجد لذة الحياة ولا متعة المدينة ولا رفاهة العيش، أذوق لذع الغربة وغضاضة الحرمان، ولا أرى من دنيا القاهرة سوى الأزهر والحجرة وما بينهما فحسب. أعدو إلى الأزهر أستمع إلى شيخي فلا أفهم عنه شيئاً، وأحفظ كلماته فلا تطرب لها نفسي، وأستظهر عباراته فلا يهتز لها قلبي. ثم أروح إلى الحجرة التي أسكن لأندفع مع رفاقي في ثرثرة وهذر ما ينتهيان.