وضقت بالحياة هنا في القاهرة، وضاقت هي بي، فذهبت أتلمس لنفسي متنفستا ً بين صحابي في الأزهر، وبين رفاقي في الحجرة، فتفجرت حياتي عن لذاذات فيها البهجة والسرور. فنحن - أنا ورفاقي، حين نغدو إلى الأزهر لا نهفو إلى الشيخ ولا نسعى إلى الدرس، كدأب الطالب المنتسب لا يلصق بشيخ ولا يوثق إلى ميعاد ولا يقيد بدرس، ولكن ننطلق إلى حماقات الصبي وسفاهات الشباب، ولكثير من شباب الأزهر حماقات شيطانية تبدو عندما تهب أول نسمة من نسمات الصبححين يوشك الأزهر أن ينفض عنه سنات النوم، ومن بعد الظهيرة حين يثقل الكرى أجفان الطلبة من فرط الشبع والامتلاء، ومن بعد صلاة العشاء حين تنهد الأجسام من أثر الكلال والتعب. فما نبرح في هزل ومزاح حتى يضج صحن الأزهر، وحتى يضيق بنا من يتكلف الرزانة، وحتى يثور من يريد أن يفرغ إلى الدرس أو من يطمع في أن يهدأ إلى الفراش. فلا نخرج من هناك إلا حين ترتفع في وجوهنا عضا المشد أو توشك أن تصفعنا نعال الطلبة.
ونحن حين نروح إلى الحجرة نتحّلق حلقة واحدة نتفكه بما يفعل أساتذتنا ونتندر بما يقولون ونتهكم عليهم في عبث وإقذاع. وإن أعجزتنا فنون الحديث أخذ شاعرنا يقرأ طرفاً من قصص أبي زيد الهلالي أو الزناتي خليفة أودياب، يقرأ في غير تعثر وينطلق في غير توقف، وهو يترنم بما يقرأ في صوت رقيق جذاب يأخذ اللب ويأسر القلب. وقد نجلس إلى رجال ممن نزحوا عن قريتنا منذ زمان يبتغون سعة من الرزق هنا في القاهرة فنستمتع معاً بشرب الشاي الأسود، ويستمتعون هم بوقت جميل فيه المرح واللذة، ونستمتع نحن بما نسمع من أغانيهم الريفية وألحانهم الشجية، فتمتلئ الحجرة ضجيجاً تهتز له أرجاء المكان. فلا تهدأ العاصفة إلا حين يدخل الشيخ علي في وقاره المصنوع وهو ينادي بصوت أجش (الله، الله! هذا هو العلم يا مشايخ!) فينقض السامر في صمت. أما أنا فأنطلق إلى لحافي أتلفف فيه، أواري ابتسامة السخرية وقد تطلْق بها وجهي.
ولطالما أحسست السعادة بين صحابي في الأزهر ورفاقي في الحجرة فما يزعجني إلا هذا الشيخ القزم المعروق، وهو يثير في نفسي الكآبة والحزن، وإن حديثه ليبعث فيّ الملل والضيق، وإن حركاته لتحملني على النفور والبغض، وإن طباعه لتبذر فيّ غراس الكراهية له والاشمئزاز منه.