للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والشيخ علي فتى ضئيل مهزول تقتحمه العين وتزدريه النفس، يتعالى حين يحس الصغار، ويترفع حين يحس الضعة، ويتكبر حين يحس الذلة، في وجهه عبوس، وفي كلامه خشونة، يتصنع الرقة ويتكلف الظرف. وفي طبعه الشراهة والأنانية فهو يحرمني مال أبي، فما يحبوني بقرش أشبع به بعض رغبات نفسي، وإنها لتدفعني إلى أشياء أراها في الشارع، أهفو نحوها ولا أجد السبيل إليها. وهو يحرمني حاجات القرية، فأبي يرسل إلي الدجاج والأرز والفطير والعسل والسمن و. . . فأراه وأشتهيه ولكن يدي لا تستطيع أن تبلغه؛ وإن كبريائي لتترفع عن أن تتحدث بهذا لواحد من الناس. وهو فظ لا يَجلس إلى واحد منا ولا يتبسط معنا في الحديث، ولا يلقي إلينا بالتحية، صلفاً منه وتيهاً، فهو - في رأي نفسه - شيح يوشك أن يكون عالماً. ثم هو يتأنق في لباسه الرخيص ويحرص على أن يلبس نفسه - دائماً - ثوب الطاووس.

اشدّ ما غاظني ما أرى من طباع هذا الشيخ وفيها اللؤم والضعة، ولشد ما ضايقني أن أراه يحاول أم يضعني منه موضع الخادم وأنا شموس صعب، ولشد ما حزّ في نفسي أن يزعم لنفسه الرئاسة فيريد أن يبسط علينا سلطانه، وما هو في القرية بشيء.

وثارت شيطانيتي - ذات يوم - ودفعتني إلى أن أعبث بالشيخ فرحتُ أنشئ كلاماً موزوناً مقفى فيه الهجاء المقذع والتهكم المر، والسخرية اللاذعة، أخاطب به هذا الشيخ القميء، وأخذت اردده بين رفاقي كل مساء في الحجرة، وفي وقت الظهيرة في صحن الجامع الأزهر، فما تلبث رفاقي أن حفظوه وراحوا يترنمون به وجاءني الشيخ علي يفور غضباً ويتوثب غيظاً، يتكلف الوقار والهدوء ثم صاح في وجهي (أأنت قلت هذا الكلام؟) فقلت (نعم، وويلك إن أنت رفعت يدك أو حركت لسانك!) وذهل الشيخ لحديثي حين رأى فيه الجرأة والغلظة، فقام عني ليكتب إلى أبي يشكوني.

وجاء أبي ليسمع ويرى، فأغلظ لي في القول وعنف في الحديث، ولكنه حين أراد أن يعود إلى القرية أعطاني عشرة قروش. . . عشرة قروش كاملة! ورأت طفولتي في نظرات أبي وفي قروشه معاني خفيت على الشيخ نفسه. وسافر أبي إلى القرية ولكن (قصيدتي) مازالت تلاحق الشيخ في كل مكان ويترنم بها كل لسان.

وضاق صاحبنا بهذا الهجاء فانطلق إلى شيخي ينشر أمامه سفاهتي وقلة أدبي، وشيخي

<<  <  ج:
ص:  >  >>