للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حول فلسفة نيتشه]

ثورة على القطيع

للأستاذ زكريا إبراهيم

لم يقتصر نيتشه على مناهضة أصحاب النزعة العاطفية المغالية، بل لقد حاول أيضاً أن يناهض أصحاب النزعة العقلية المتطرفة؛ فحمل على (العلماء) الذين يؤمنون بالعلوم الوضعية ويرون فيها شفاء ومقنعا للفكر الإنساني، وحمل أيضاً على (الفلاسفة) الذين يؤمنون بالعقل ويعتبرونه المعيار الوحيد للحقيقة. وبين هؤلاء الذين لا يصدرون في تفكيرهم إلا عن (العقل)، وأولئك الذين لا يصدرون إلا عن (القلب)، وقف نيتشه موقف أستاذه شوبنهور، فجعل الصدارة للإرادة، وقدم القوة على الفكر والعاطفة، فالإرادة عند نيتشه هي جوهر الوجود، وكل ما في الوجود إنما هو تعبير عن هذه الإرادة

غير أن الإرادة قد تفهم إما بالمعنى الفردي أو المعنى الجمعي؛ وهذا المعنى الأخير هو ذلك الذي يحرص عليه الديمقراطيون والاشتراكيون، فيخضعون الفرد للجماعة. ولكن نيتشه يتمرد على (غريزة القطيع)، ويعلن سيادة الفرد المطلقة في نظام الطبيعة، على نحو ما أعلن رجال عصر النهضة

وقد انقسم عصرنا الحاضر كله إلى طائفتين: طائفة الاشتراكيين، وطائفة الفرديين؛ وهاتان الطائفتان قد تشكلت كل منهما في نهاية الأمر بصورة (إنسانية). أما النزعة الرومانتيكية فإنها في الواقع قد اتجهت إلى عبادة الشخصية، وإن كانت قد قدست على وجه الخصوص تلك التي لا تخضع إلا لقانونها فقط، أعني تلك التي لا تتقيد إلا بالشرعة التي استنتها قوتها الخاصة، متمثلة في الهوى المنطلق، أو الإرادة التي لا ضابط لها. وقد ترتب على هذه النزعة، أن ظهرت الفردية المتطرفة التي أفضت في النهاية إلى ظهور المذاهب (الفوضوية). ووجدت في الوقت نفسه نزعة رومانتيكية اشتراكية وديمقراطية، على يد بيير ليروه، وفيكتور هيجو، وجورج صاند، وميشيليه؛ وهذه أشاعت في المجتمع مبادئ السعادة، والحرية الشاملة، والإخاء، والمساواة. إلى آخر تلك المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية. أما نيتشه فقد رأى في كل هذه النزعات انحرافاً وانحلالاً، ولذلك فقد عاد إلى النزعة الفردية البدائية، ونصب (الأنا) أو الذات، ضد المجتمع بأسره. وبدلا من تلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>