الديمقراطية التي تتهدد بالمساواة بين الجميع ومحو كل الاختلافات والفروق، أو تلك الاشتراكية الشعبية التي تفنى الفرد لحساب المجتمع، نجد نيتشه يدعو إلى أرستقراطية جديدة يعارض بها كل تلك المذاهب الديمقراطية والاشتراكية والفوضوية، ويعتبرها سبيل الخلاص الوحيد، فيستبدل بالرجل المتوسط المساوي لغيره من الناس، الرجل الكامل أو (الإنسان الأعلى)
والرجل المتوسط الذي يحمل عليه نيتشه هو ذلك الإنسان الوضيع الذي ينساق مع القطيع، على طريقة خراف بانورج أما ذلك الذي ينطوي على نفسه، ويفزع إلى الوحدة لكي يعيش كالنجم الغارق في السكون، فهو في نظر نيتشه الرجل القوي المبدع:(إن الأحداث العظيمة لا تنشأ إلا بعيدا عن الجماهير والأمجاد، فكل من ابتدعوا القيم الجديدة قد انتبذوا لأنفسهم مكانا قصيا، على منأى من العامة، وبعيدا عن الأمجاد) والرجل الممتاز إنما هو ذلك الذي يهرع إلى الوحدة، وينفرد بنفسه، لكي يحيا كتلك (الدوحة التي تشرف على البحر في سكون، وتصغي إلى هديره في صمت)!
لقد يصرخ به القطيع قائلا:(إن من فتش فقد ضل، وما الوحدة إلا خطيئة)، ولكنه يمضي غير آبه بصوت القطيع الذي يهيب به، لأنه يعلم أن صوته نداء العبودية يستصرخه أن يبقى، وصوت الوحدة نداء الحرية يستصرخه أن ينطلق! اجل، إن الرجل الممتاز لم يخلق لكي يسير وراء القطيع، بل لكي يكون ثورة على القطيع، ونارا حامية تصلى بها الجماهير! فليس على الرجل الممتاز أن يخضع لحكم العامة، بل عليه أن يخضع لحكم نفسه فحسب. وليس من واجب الرجل المبدع أن يأخذ بما يمليه عليه قانون السواد الأعظم، بل إن من واجبه أن يتخذ من إرادته قانونا له، فيشرع لنفسه الخير والشر. وليس ينبغي للرجل القوي أن يمد يده متسرعا لمصافحة من يلتقي به في طريقه، بل ينبغي له إذا التقى بتلك الحشرات التي يتحلب ريقها بالسم، أن يسارع إلى وحدته، حتى لا تمتد إليه السموم الخبيثة التي تنفثها حشرات المجتمع!
فالرجل الممتاز إذن هو ذلك المتوحد الذي يعتزل الناس لكي يعيش بعيدا عن المجتمع، منطويا على نفسه؛ وأما الرجل الضعيف فهو ذلك الذي يشعر بحاجته إلى الاجتماع بالناس، والانضمام إلى القطيع. ولذلك يقول نيتشه: إن الأقوياء ينزعون إلى الانفصال والتفرد،