كان لافونتين قد أربى على الستين من سني حياته عندما صادف ذات صباح الآنسة (بوليو) وهي في جلال ربيعها الخامس عشر. فإذا ملأ عينيه من جمال لها يموج فيه الطرف، ورواء وحسن يبهران الأبصار، عرته بهتة وذهل عن نفسه، فهام على وجهه على غير هدى حتى التوت به الطريق واستغلقت عليه معالمها. وما زالت به الهيمة وقصاراه ترديد صورتها إلى أن أطبق عليه المساء وهو بعد لا يشعر أنه قطع مسيرة يوم مذ صادفها من مطلع الشمس إلى مغربها. ولم يكن يومه شاقاً ولا عسيراً. فهو يوم للحسن ملكت دولته خيال الشاعر كما في أي يوم مضى من شبابه. فقد طالما تعود أن يتذوق الجمال وأن يمضي مع أحلامه وهو يصور روائعه لخياله غافلاً عن الوقت ومره، والطريق ومعالمها، والحياة وصخبها ما التذ بالسير والخيال. وإنما كان يومه غريباً فهو لم يضل سبيلاً قبله. فكم من أرض قطع وكم من حزن أجاز وبطن هبط وهو في مسابح الأحلام، وفي كل مرة كان أهدى إلى بيته من قطاة. ولكن هزة الجمال الفتى أضلت، هذه المرة، الستين عاماً التي ينوء منكباه بحملها فما عاد يعرف سبيل الرواح حتى التقى بخادمه عند الطريق. فعاد به إلى وكره. فلم يك بعد هذا ليبرح فراشه أياماً ثلاثة وهو ما يزال متأثراً بالوجه الصبوح الذي أهلت عليه فتنته بما لم يعهده من قبل في سلطان الجمال. وهكذا ما زال شيخنا مع الستين شاب القلب فتى العواطف. ولهذا معناه فما استهللت بهذه الأقصوصة إلا لتبيان أخص ما في خلق هذا الأديب الشاعر. فقد أصبح سهلاً الآن أن نستوضح تقديره للجمال لدرجة الافتتان به مجرد الجمال، إلى جانب بوهيميته ويسر أخذه