للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

للحياة من مجرد تصرفه حيال رؤيته للصبية ترفل في الحسن. فهو إذ رآها قنع بمرآها وبصيان صورتها في ذهنه وبالخلاص من هذا بلذة معنوية حرفة فلم يعمد إلى مجاذبتها الحديث وعقد أواصر المعرفة معها تمهيداً لحاجة مادية - فهذا أبعد ما يكون عن طبعه - فهو إذن معني بالجمال لذاته. كذلك إذ قنع بهذه الشحنة المعنوية لأحلامه، اندفع في السير على غير متجه، وخبط في الأرض خبط عشواء، وهذا يفسر جانب البوهيمية في سجاياه. ثم أمضى يومه كله معنياً بما عاين لوقته، يسرح في رياضه سائم الطرف والبال، فأضاع يومه حالماً وما أيسر تناول الحالمين للحياة. ولندع الآن يسرد بقية القصة بنفسه لعلنا ندرك في قوله مزيداً إذ فسر لصديق عاتبه، سر انحجازه عنه هذه الثلاثة أيام التي توارى فيها فقال:

(لِمَ لم تتقصى يا صديقي أسباب انحجازي عنك طيلة هذه الأيام الثلاثة فأفضي إليك بدخيلة نفسي؟. . . إذن لقلت لك بلا مواربة إنني وأنا المسن لم أملك دفعاً لإغراء صبية أغراني بالحلم فيها جبينها وربيعها الخامس عشر، وعيناها الزرقاوان، وطراوة بشرتها الوردية، وسحر قسماتها ولمحاتها الذكية. ثم لأقمتك بعد القول حكماً باسم الجمال)

إلى هذا الحد من قوله قد تشم رائحة الإعجاب البدني حرفاً ولكنه يعود فيجلو لنا الجانب الساحر الرقيق من طبعه:

(ولكن. . . لو أن هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي عكر صفو راحتي وهدوء شيخوختي قد صادف نصفه الحقيق به، لكنت أنأي الناس عن الحقد عليه. بل لكان هناءة لعيني أن أراه وحبيباً من لذاته. . . ولو أنه هزأ ضاحكاً من إعجابي به لما اضطغنت عليه. . . وإلا فلم كان أمثالي من الشيوخ الوامقين. . . أليس لإضحاك الحسان من الصبايا؟)

وههنا ما يستلفت الأنظار. فلافونتين لا تستأثر بقلبه الأثرة التي هي العنصر الغالب في عاطفة المحب. فهو يتمنى لكاعب زلزلت عنده وقار الشيخوخة وألهبت فيه برد عاطفتها كل توفيق مع حب غيره يكون أصلح وأنسب لفتاها وأليق لصباها. ثم هو يسخر من نفسه في يسر ورخاوة وقلة اكتراث كمن يهزأ من امرئ لا تربطه به رابطة أو صلة. ويصرح بعاطفة كان أولى به كتمانها في سن تدعو تجاريبها وحنكتها إلى صيان ما بالنفس للنفس والتزام جانب الصمت والظهور بالمظهر اللائق بها من الاتزان والرزانة والتعقل. وهذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>