لا يستطيع مؤرخ أن يتجاهل الدور العظيم الذي أدته الصحافة في تطورات العالم السياسية والثقافية منذ أوائل القرن الماضي؛ ولا يستطيع مؤرخ الحرب الكبرى أن ينسى أن الصحافة كانت إلى جانب الجيوش والأساطيل أداة من أدوات النصر؛ وليس مبالغة أن توصف الصحافة الحديثة بأنها في الدولة سلطة رابعة إلى جانب السلطات الدستورية الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية؛ وفي ظروف معينة تبدو الصحافة أولى السلطات وأهمها في الدولة أو المجتمع: تنشئ حكومات وتسقط حكومات، وتحشد الرأي العام لتحقيق برنامج معين أو فكرة معينة، وقوتها في ذلك لا تعادلها قوة، ونفوذها لا يجاريه نفوذ. هذه حقائق بديهية لا تقتضي جدلاً أو مناقشة. وما زالت الصحافة في الأمم العظيمة الحرة هي صاحبة المقام الأول في قيادة الرأي العام، وفي توجيه القوى السياسية والاجتماعية. وفي عصرنا قطعت الصحافة في سبيل التقدم العلمي والفني مراحل مدهشة؛ ولكن الصحافة أصيبت في عصرنا أيضاً بأقسى محنة عرفتها في تاريخها القصير المدى. ففي عدة من الأمم العظيمة لقيت الصحافة ضربتها القاضية، وأصبحت شبحاً فقط لما كانت عليه من قبل، وجردت من أعظم وأسمى مظاهرها: حرية التفكير والكتابة؛ ولم تبقى سوى أداة ذليلة خانعة للقوى الطاغية التي تخنقها وتسيرها كيفما شاءت
وقد كانت الصحافة الحرة وما زالت مظهراً من أهم مظاهر الديمقراطية والنظم الحرة؛ وقد أصيبت الديمقراطية والنظم الحرة في عصرنا برجعة خطيرة، وأصيبت معها كل مظاهرها الحقيقية ومنها الصحافة؛ فحيثما نكبت الديمقراطية: في روسيا السوفيتية، وفي تركيا الكمالية، وفي إيطاليا الفاشستية، وأخيراً في ألمانيا الهتلرية، تلقى الصحافة أشد محنة عرفتها، وتسحقها النظم الطاغية التي رأت أن تتخذها مع باقي القوى العامة، أداة لتحقيق برنامجها وتوطيد سلطانها. وفي هذه البلاد التي يسود فيها الطغيان المطلق، لم بيق رأي حر يستطيع أن يتنفس، ولا رأي عام يستطيع أن يعبر عن شعوره أو يحدث أثره المشروع في الحياة العامة؛ ولا تستطيع أن تخرج من الصحافة إلا بصورة واحدة مكررة هي إرادة الطغاة ومزاعم الطغاة، تفرض على ملايين من الناس لا حق لهم في مناقشة أو تذمر، ولا