للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٦ - دفاع عن البلاغة]

٢ - آلة البلاغة

أشرنا في كلام سبق إلى أن طالب البلاغة الموهوبَ لابد له من درس اللغة، والطبيعة، والنفس، على الأخص؛ ثم أجملنا المراد بدرس اللغة، وألمعنا في صدد ذلك إلى منهاج يبتدئ بتقويم السليقة وينتهي باكتساب الذوق

وكان الأشبه بطبيعة الموضوع أن نفصل الكلام في تحصيل علوم اللسان ووضع الخطة لها وبيان الفائدة منها؛ ولكننا في مقام من يدافع ولا يعلِّم، ويوجه ولا يقود. وقديماً شكا عبد القاهر ما نشكو من زهادة الكتاب في اللغة، وأنصرافهم عن النحو، واستخفافهم بالبيان، وتنكرهم للشعر، وجريهم في الصياغة على الاحتذاء، وظنهم أن الكاتب متى (عرف أوضاع لغة من اللغات. . . وعرف المغزى من كل لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بيّن في تبك اللغة كامل الأداة. . .) على أن (ههنا دقائق وأسراراً طريق العلم بها الروية والفكر، لطائف مستقاها العقل، وخصائص معانٍ ينفرد بها قوم هُدوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكشف لهم عنها. . . وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجب أن يفضُل بعضه بعضاً، وأن يبعد الشأو في ذلك وتمتد الغاية، ويعلو المرتقى ويعز المطلب حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز. . .)

ولقد حاول عبد القاهر أن يطبَّ لهذا الداء فوضع كتابيه القيمين (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة)؛ ولكن الداء كان قد استشرى فلم يصحّ عليهما إلا أفذاذُ رزقوا شدة الأسر وقوة الفطرة. ثم عقم الدهر بمثل عبد القاهر، وانقطعت الأسباب بين كتابيه وبين الزمن، فتجددت معانٍ وصور، وتولدت أغراض وأساليب، وأصبح هذان الكتابان في أول الطريق مناراً لا ترى بعده إلا إغفالاً ومجاهل! فهل في البيانيين من أساتذة جامعاتنا الثلاث من يحاول في البلاغة الحديثة ما حاول عبد القاهر في البلاغة القديمة، فيجددوا ما درس، ويكملوا ما نقص، ويقيموا أدب الكتابة وأدب النقد على قواعد ثابتة من الفن الصحيح والعلم الحديث؟

ذلك، وأما درس طالب البلاغة للطبيعة فلأنها كتاب الفنان الجامع ومصوَّره العجيب. منها موضوعه ومادته، وعنها اقتباسه ووحيه، وفيها دليله ونموذجه، وبها أخيلته وصوره، فيجب

<<  <  ج:
ص:  >  >>