للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الابتكار في الأدب]

يرى بعض أدباء الغرب أن للمصور المجيد، والشاعر المبدع والموسيقى الماهر موهبة عجيبة تعرف بالعبقرية، تعمل مستقلة عن الزمان والمكان، وأن كل ما يحتاجه الفنان الموهوب إنما هو الإلهام مع قليل من الإقدام، فألق به كما يقولون في جوف المحيط أو في وسط الصحراء ودعه يتجه نحو الفن فسيعاون الإلهام عبقريته على إنتاج الجيد وإبراز المعجز من الفن والأدب.

ولكن الحقيقة أقسى من وهمهم هذا، فالواقع أنه ليس هناك فنان يعمل مستقلاً عن الزمان والمكان. ولو أخذنا طائفة من الكتب الأدبية الرائعة في أي عصر من العصور، وقرأناها مع إلمام تام بالكتب التي سبقتها مباشرة لحكمنا مضطرين بأنه لا يوجد كاتب - مهما علا قدره - يتهيأ له وجود مستقل عن حدود زمانه ومكانه الضيقين، إذ الكتاب ما هم إلا أجسام مختلفة تسكنها روح واحدة هي روح العصر الذي يعيشون فيه كما يقول البحاثة الإنجليزي بتركونل وكذلك الحال في الموسيقى والتصوير.

وحقاً إن الكاتب الكبير قد يطبع العصر الذي يعيش فيه بطابعه الشخصي وينحو بجمهرة المتأدبين نحواً لم يعهد قبله، وحينئذ يلقبه معاصروه بالمجدد أو الثائر، ولكنه على ذلك يساير التيار الزمني ويتأثر ببيئته إلى حد كبير. وقد اعتاد مؤرخو الأدب الإنكليزي تقسيمه إلى عصور حسب الشخصيات البارزة في كل عصر ملاحظين هذه الحقيقة المقدمة. فهناك عصر شوسر، وعصر شكسبير، وعصر ميلنون، وعصر دريدن، وعصر بوب، وعصر جونسون، وعصر وردزورث، وعصر تينسون. وكلها شخصيات متفوقة تزعمت الأدب في عصورها وسلكت به مسالك مختلفة. ولكنا نراهم كثيراً ما يتأخرون بالعصر عن صاحبه ويدخلون فيه بعض مشاهير الأقربين ممن سبقوه ملاحظين تأثره بهم وتأثيرهم فيه، وتمثيل الجميع لأزمنة متشابهة. وكأنهم بهذا يقررون أن الابتكار الأدبي بمعناه الصحيح لا يتيسر لأي أديب.

وبعد هذا، له العظمة الأدبية تساوي الجدة الأدبية؟

الإجابة عن هذا الاستيضاح تدعو إلى التفكير وإنعام النظر. . . فقد اعتاد جل نقاد العربية أنهم إذا أرادوا بحث أثر أدبي أخذوا ينظرون إلى ما فيه من الأفكار والأخيلة: الجديدة هي فيذكر صاحبها بالفضل؟ أم سبقه بها غيره فيرمى بأنه دعى؟ وليس من فضل - عندهم -

<<  <  ج:
ص:  >  >>