أفاض المتكلمون وأبدعوا، وأخرجوا للعالم العربي ما في بطون الكتب من مآثر، لم نكن نُوليها انتباهاً، فلم يدعوا لي شيئاً بارزاً أذكره لابن الهيثم، ورسموا صوراً هي أقرب الصور إليه سجلوا فيها أعماله ومبلغ تحليله للمسائل وفهمه للأشياء. هذا هو ابن الهيثم، عالم طبيعي له مشاركة في الفلك والعلوم الرياضية والفلسفية وفضلاً عن ذلك نرى الهندسة تقترن باسمه، بل إن شهرته كمهندس غلبت على بقية صفاته، من ذلك ما ذكره القفطي في كتابه:(أخبار العلماء) من أنه الحسن بن الحسن بن الهيثم المهندس البصري، وأنه صاحب التصانيف والتآليف العديدة في علم الهندسة، وهو بعد ذلك يتحدث عنه في بقية الكلام كمهندس أكثر منه عالماً طبيعياً.
والواقع أن دراسة تحليلية لابن الهيثم لقمينة أن تضعه في صفوف علماء الطبيعة أكثر من أن تعده بين المهندسين، وإنما وصل إلى هذه النتيجة من أثره التجريبي لا من أثره في التأليف، ولكنا لا نجزم بهذا الرأي كنتيجة نهائية لبحثنا هذا. فتجاريبه في علم الضوء معروفة، وقد شرحها بمهارة زميلي الأستاذ مصطفى نظيف بك، ولا نزاع في أننا متفقون في التفريق بين الهندسة كجزء من علم الرياضة وبينها كمجموعة لأعمال فنية أو إنشائية. إنما يُعرف المهندس بآثاره الإنشائية أكثر من أثره في التأليف. فأمحوتب مهندس الملك زوسر بأني هرم سقارة، مهندس كشف عن استعمال (الطوبة) وهي تدعو للإعجاب؛ وكيف لا نعجب له حين عرف كيف يُكوِّن من اللَّبِن والحجارة أشكالاً منتظمة، أشكالاً ذات طول وعرض وارتفاع، فيها كل هندسة إقليدس وأكتنيوس ومساعده كليكراتس، عندما شيدا البارثينون أهم معبد فوق الأكروبول، وهو الذي تم تحت إشراف النحات المعروف فيدياس في عهد بركليس الذهبي، كانا مهندسين عظيمين، فإن عملهما الإنشائي لا يزال إلى اليوم جديراً بالتقدير؛ وجارنييه باني أوبرا باريس وإيفيل الذي شيد بها البرج المعروف مهندسان أحدهما في العمارة والثاني في الإنشاءات الحديدية وكلاهما باعث دهشة. تُرى هل كان لابن الهيثم من عمل إنشائي يضعه بين المهندسين الذين يذكرهم التاريخ؟ هذا ما