علاقة الفنان بالطبيعة متينة محكمة، فهي مصدر وحيه وإلهامه، منها يستقي عبقريته، ومن جمالها يروي أحاسيسه ومشاعره. ومع أن الطبيعة ينبوع الجمال وموطن الروائع، فهي ليست كل شيء عند الفنان، كما أنه من العبث أن نشبه الفن بتقليد الطبيعة، أو محاكاة الجميل فيها، إذ ليس الفن تقليداً وتشبيهاً، وإنما هو تفسير وتحليل وخلق وإبداع. وليس من المبالغة في شيء أن يقال: يبتدئ الفن عندما يبتعد الفنان عن التزامه لتقليد الطبيعة.
نعم، إن الطبيعة مصدر الجمال ولها أعظم الأثر في عمل الفنان، إلا أنها - كما ذكرنا سابقا - ليست كل شيء عنده. فالفنان في روائعه يضفي على الطبيعة من أعماق نفسه جمالاً يزيد من جمالها، وألواناً من خلقه وإبداعه تكسبها جاذبية وتأثيرا. وإذا كانت السمفونية الريفية لبيتهوفن قطعة فنية رائعة، فهي ليست كذلك لكونها تقليداً لأصوات طبيعية، بل لأن بيتهوفن نفسه استطاع أن يعبر فيها عن احساسات تفتحت من جراء اتصاله وانغماسه بجمال الطبيعة، وتمتعه بنغمات أصواتها الجميلة العذبة، فخرجت تلك الاحساسات، وتفجر ذلك الشعور إلى عالم الواقع بأصوات موزونة ونغمات منسجمة، وبهذه النغمات وتلك الأصوات برزت عبقرية الفنان وقوة خلقه وإبداعه، فجعل من توفيقه بين هذه وتلك قطعة موسيقية رائعة تتوق القلوب لسماعها، وترتوي النفوس من أنغامها وألحانها.
فالابتهاج الذي يغمرنا عند سماعنا السمفونية الريفية، والروعة التي برزت بأجلى مظاهرها في أنغامها المنسجمة الموزونة، لا يرجعان كلية إلى الطبيعة، بل إلى عبقرية بيتهوفن وملكته الفنية.
يشير الأديب الفرنسي أندريه جيد في دراسته للفنان الفرنسي بوسان إلى رأي الكاتب كريستفر مارلو عن أثر الطبيعة في نضوج الفنان فيقول: (يثبت الأستاذ مارلو بأن الباعث على الخلق الفني في كل الرسامين لا يتأتى مباشرة من الطبيعة، وإنما يتأتى من بعض