ظهور المذهب في الأمة شيء، وشيوع العمل بذلك المذهب شيء آخر
لكن ظهور المذاهب مع هذا لا يخلو من دلالة قوية على طبيعة الأمة ومعدن أخلاقها وطرائق معيشتها، ولو لم يعمل به الناس أو يتقيدوا بأحكامه في الحياة اليومية
فالجنود والفلاسفة ورجال المال وأصحاب التجارات الواسعة موجودون في بلاد الحضارة كافة، وربما تساوت (النسبة) بينهم في العدد والقوة والجاه، ولكن مما لاشك فيه أن البلد الذي (مثله الأعلى) رجل الحرب غير البلد الذي يتخذ له (مثلاُ أعلى) من الرجل الغني أو من الرجل الحكيم أو من الرجل الزاهد. فإذا ظهر في الصين حكيم يوصي الناس بالوداعة وحب السلم وكراهة القتال فليس بالمعقول ولا بالميسور أن يشيع العمل بوصاته حتى يمتنع ظهور الجند ووقوع القتال بين تلاميذه ومريديه؛ ولكن ليس بالمعقول كذلك إن نسوي بين هذا البلد وغيره من البلدان التي يتمنى حكماؤها شيوع الحرب أو شيوع الثروة أو شيوع الزهد والرهبانية، إذ يكفي أن يتمنى الإنسان شيئاً ليكون مختلفاً في تفكيره وشعوره ممن لا يتمنونه وقد يتمنون نقيضه، ولا يسوى بينهم بعد ذلك أنهم يشتركون في عمل واحد يعمله بعضهم مضطراً مسوقاً إليه، ويعمله بعضهم مختاراً شديد الرغبة فيه
لقد أوصى حكماء الصين بالسلام وبغضوا الناس في الحرب وفيمن يجعلها صناعته وهمه وهجيراه، فليس معنى هذا أن حرباً لم تقع في الصين وأن حكيماً لم يظهر بين أهلها يحثهم على الكفاح كلما دعت إليه حاجة أو قضت به مصلحة سياسية؛ فقد ظهر من الصينيين فلاسفة بالغوا في تمجيد الحرب كما يبالغ فيها اليوم فلاسفة المذاهب (الفاشية) أو مذاهب العسكريين. وقال أحدهم وهو (كنج سوف يانج): (إن الأمة التي تجتمع فيها القوة حقيقة أن ترهب وتصبح عظيمة البأس والمهابة؛ أما الأمة التي تلهو بالكلام فهي وشيكة التمزيق. ولو أن ألفاً اشتغلوا بالزرع والحرب وواحداً بينهم أشتغل بنظم القصيد ورواية التاريخ وتنميق الأحاديث لأفسد عليهم أعمالهم أجمعين. . .) إلى أمثال هذا الكلام الذي يخيل إلى قارئه أنه من عربدة المعسكرات لا من نصائح الوعاظ والحكماء