نهضت للقائه وقد أقبل عليّ هاشّاً محيياً، وصافحنه شاكراً له تحيته مجيباً عليها بأحسن منها، وجلست وجلس وهو يحمد الظروف التي جمعت بيننا في القرية على غير انتظار
وكان يعلم أني لا تتاح لي فرصة للمجيء إلى القرية إلا اغتنمتها فمال بالحديث إلى ذلك المعنى، وأخذ يبدئ ويعيد في بيان مبلغ كرهه للقرية، وهو لن يرى أبلغ من أن يقول إنه يكرهها بقدر ما أحبها؛ وإنما يجئ إليها مضطراً في بعض عمله ثم يغادرها بأسرع ما يستطيع
ولما كنت أفهم العلة الحقيقية لتلك الكراهية لم أشأ أن أناقشه فيما أبداه من غيرها من العلل الزائفة، بل لقد ثقل عليّ كلامه وأنكرت ما يفيض به من تكلف سخيف وما ينطوي عليه من خبث بغيض
ورأيته يبالغ في الحذر على ملابسه أن يعلق بها التراب فهو لذلك يمسحه عنها بمنديله بين آونة وأخرى لا يمل ذلك ولا يفتر عنه؛ وكيف يطيق أن يرى الغبار على حلته (الإفرنجية)، وإنه ليزهى أكبر الزهو بأن يخطر فيها على أعين الناس في القرية يذكرهم بها كيف أنه أصبح ذلك (الأفندي) الوجيه الذي لا يقل في وجاهته وعظمته شأناً عن سراة القرية ووجوهها. ولعل هذا المظهر الذي تبهج له نفسه وهو وحده الذي يجعله يطيق البقاء يوماً أو بعض يوم في تلك القرية
وقطع علينا الحديث قدوم شيخ أربي يما قدرت على الستين يتوكأ على عصا غليظة، ويكاد من الضعف لا تقوى على حمله رجلاه، ولم يكن ذلك الشيخ المتهدم إلا والد ذلك الأفندي الوجيه؛ ونهضت أستقبله مظهراً له حفاوتي به؛ وعجبت أن أرى ابنه يقف متثاقلاً متباطئاً؛ وأسند الرجل عصاه إلى أحد المقاعد وهمّ ليجلس على الأرض فأمسكت بيده وأجلسته بعد إلحاح على المقعد. . .
وأطرق الرجل لحظة، ولكني تبينت في عينيه كلاماً؛ وفطنت إلى أنه يرتاح لوجود ابنه معي في تلك الآونة إذ يستطيع أن يسمعه ما يريد ويِشهدني على قوله ويبثني شكواه؛ وزدت وثوقاً من ذلك بما رأيته من اضطراب وغيظ على ملامح ابنه الوجيه.