وتنهد الرجل تنهدة طويلة ثم أنطلق يتحدث ولم يعد يتحدث إلا شكاة مره موجعة من هذا الذي أنفق عليه الرجل ماله جميعاً حتى صار إلى ما صار إليه. وذكر لي فيما ذكر والدموع تبلل لحيته البيضاء، أنه ذهب إلى بيت أبنه في المدينة فأنكر الابن وجوده هناك، فذهب أبوه يطلبه في مقر عمله فدله عليه بعض الخدم، فانتحى به الابن جانباً وهو يحاول كتمان غيظه ثم صرفه بعد دقائق، فما كاد الرجل يبلغ عتبة الحجرة حتى سمع ابنه يقول لزملائه ضاحكاً: إن هذا الرجل كان فيما قبل مزارعاً أجيراً عند أسرته وإنه يطلب إحساناً. . . وخنقته العبرات لحظة ثم عاد إلى حديثه يسألني: هل يكون ذلك نتيجة التربية؟ وهل يكون جزاؤه على بيع ما كان يملك في تعليم ابنه أن يقابله بما يقابله به؟ والتفت أطلب الجواب من الوجيه المتعلم الذي يكره القرية وحياة القرية، فهالني ما سمعته من عبارات فاجرة أخذ يوجهها إلى الذي كان سبباً في نعمته، دون أن يستحي، وكانت أقل تهمة ألصقها بأبيه أنه قد صار شيخاً خرفاً لا يؤاخذ
وبلغ بي الغيظ كل مبلغ فنصحت إلى الرجل أن يرفع إلى القضاء، دعواه، فنظر إليّ نظرة شكر ولكنه قال:(يا بني نضحك علينا البلد ونسمع بنا الناس؟ لا، أنا عندي أموت من الجوع ولا يقول الناس إن ابني ناكر الجميل)
وأخذت أسري عن الرجل بما أستطيع من الكلام وقد عزني في هذا الموقف الكلام. كل ذلك وابنه صامت كأنه جماد، ثم وعدت الشيخ أني سأبذل قصارى جهدي من أجل راحته وودعته مواسياً مشفقاً
وهم ابنه بالانصراف بعده فمددت إليه يدي على كره مني؛ وجلست وأنا أقول: أيكون بعد ذلك غريباً أن نجهل القرى وحياة ساكني القرى وأن نظل وكأننا بما بيننا وما بين هؤلاء المساكين من قطيعة شعبان يعيش أحدهما من كد الآخر؟ وإذا كان هذا شأن بعض الأبناء مع الآباء فكيف تكون الحال فيمن لا تربطهم بأولئك المساكين بنوة أو قرابة؟