يخيل إلي من هول ما أسمع وأرى أن هذا الغرب قد مسخ حوتاً من حيتان الأساطير له رؤوس أربعة قد فغر أفواهها جميعاً على الساحلين الأفريقي والأسيوي، يريد أن يطبق فكوكها على العالم العربي بأسره، وإنما عوق هذه الحلاقيم عن الازدراد هذا الخلاف الصاخب بين تلك الرؤوس على الاقتسام كيف يكون، وعلى الالتقام متى يبدأ! وإذا تصورت أفواج السمك حين يسوقها التيار إلى شبكة الحوت فتجزع وتضطرب؛ تصورت أمم الشرق الصغيرة وقد روعها هذا الوحش الهائل وهي وادعة في ظلال دينها، قانعة بحلال الرزق من أرضها، فتنظر إليه نظر المقضي عليه، تستنجد بالعهود فلا تنجد، وتستغيث بالمواثيق فلا تغاث، وترى بين منخري الحوت تشرشل جالساً وقد انقلب سيجاره الفخم بين شفتيه مدفعاً ضخما يقذف بالحمم السود على أرض (العلمين) وعلى ظهرها وبفضلها كتب الله له المجد ولشبعه السلامة!
تشرشل هذا الذي وقف ذات يوم على الساحل البريطاني يستقبل الهزيمة الساحقة الماحقة من دنكرك وقلبه واجف ودمعه واكف، يضرع إلى الله أن يثبت قدميه العجوزين المتخاذلتين أمام الإعصار النازي الجارف ليعيد نعمة الحرية إلى الناس، ويقيم ميزان العدالة في الأرض؛ فلما تمت له المعجزة، وقتل هتلر كما قتلت البعوضة النمرود، قام اليوم يدعو أمريكا إلى شركة أخوية بين الناطقين باللغة الإنجليزية تصوب أسهمها المراشة إلى كل دولة تطلب المساواة، وإلى كل أمة تريد التحرر، لأن الذي ورث ملكوت هتلر وسلطانه، يجب أن يرث كذلك عنصريته وطغيانه!
تشرشل هذا الذي كان كلما لكمه هتلر بجمع يده الحديدية لكمة الموت، خر فاقد القوة والوعي كالثور المنزوف، فيدركه المرحوم روزفلت، فيجلسه ويسنده، ويمسح الدم عن وجهه، وينفض التراب عن جسمه، ثم ينضحه بالماء حتى يفيق. فإذا أفاق قام مترنحاً إلى الكنيسة يصلي، أو إلى المذياع يستغيث، أو إلى مجلس العموم يبكي، أو إلى البيت الأبيض يستجدي، أو إلى المحيط الأطلسي يستوحي السماء رسالة العدالة الاجتماعية فتنزل عليه ألواحها المزيفة من سجيل؛ هذا الرجل الذي نجا لأن عمره طويل، وانتصر لأن جهده قليل، يتبجح اليوم بالعصبية والإمبراطورية والدومنيون، ويألم أشد الألم لأن وزارة العمال قررت إجلاء الجنود الإنجليزية عن مصر بعد أربع وستين عاماً جثمت فيها على صدرها