للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المكروب، فلا تنسم إلا كما ينسم المحتضر، ولا تتحرك إلا كما يتحرك المبهوظ؛ والمستر تشرشل يعلم كما يعلم كل الناس لماذا دخلوها، وكيف احتلوها، وكم سجلت مضابط برلمانهم العتيق وعود أسلافه بالجلاء عن بلد لم يملكوه بالفتح ولا بالإرث ولا بالهبة، وإنما فرضوا لأنفسهم عليه (حق ارتفاق) بالمرور، ثم جعلوا احتلاله واجباً لحماية هذا (الحق)! ثم اختلفت الأسماء على هذا الاحتلال، من الاستعمار المقنع، إلى الحماية السافرة، إلى الاستقلال الصوري، إلى الصداقة الجبرية؛ ولكن المسمى ظل في جميع هذه الحالات واحدا، وهو الوزير الذي يأمر في (دوننج ستريت)، والسفير الذي ينفذ في (قصر الدبارة)، والأسطول الذي يهدد في (مالطة)!!

حتى غيرت هذه الحرب الدنيا، فتغيرت عقول الناس، وتبدلت وسائل النقل، واختلفت أسلحة القتال، وتغلبت مبادئ الاشتراكية، وتأصلت فكرة الحرية، واستحيا بنو آدم أن يظلوا على شريعة الوحوش يحكمون الأظفار والأنياب فيما يشجر بينهم من خلاف؛ فاتخذوا (ميثاقا) للأمم، وألفوا مجلساً للأمن، وأقاموا محكمة للعدل، وطمعوا أن يقيموا العالم الجديد على هذه القواعد؛ ولكن تشرشل وسائر المحافظين لم يكونوا جادين يوم نادوا مع ترومان وستالين بهذه المبادئ، لأنهم مطمئنون إلى براعتهم في مماطلة الموت كلما طلع عليهم بمنجله الرهيب! ومن يدري! لعل الموت الذري في زيارته القادمة لا يقبل من المخادعين بعد ذلك مطلا ولا ختلا ولا فدية!

لقد كان الشعب الإنجليزي بعيد النظر سديد الرأي حين دهور تشرشل وإيدن وأعوانهما عن كراسي الحكم في صبيحة يوم النصر؛ فإن من انتصر بالسيف لا يصالح إلا بالسيف، ومن عشش الاستعمار في رأسه وفرخ في نفسه لا يستطيع أن يؤمن بالديمقراطية والحرية إيماناً يحمله على أن يحبهما في نفسه وفي غيره، ويرجوهما لصديقه ولعدوه!

على أن عذر تشرشل في موقفه من مصر ومن غيرها ناهض؛ فإن الرجل ربيب العسكرية والاستعمار منذ درج؛ ولكنك تكلف العقل شططا إذا حاولت أن تجد بعض العذر لموقف ترومان الرجل الشعبي من فلسطين!! لقد دس أنفه في هذه القضية دساً، لأن المقادير شاءت أن يكون له في قضايا العالم رأي! فهل فغمت أنفه رائحة العدل فيها، أم سطع في خيشومه عبير الذهب الصهيوني وهو يفيد في الانتخابات والدعايات، وينفع في الحروب والملمات؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>