لندع الآن جانبا وصف ما كان من الخلاف بين علماء النفس في أن الألم شعور موجب، أو لذة سالبة، ولندع كذلك بحوثهم الطويلة في تقسيم الألم إلى أنواع: فنوع منه كالذي نشعر به عند وجع الأسنان، ونوع كالذي نشعر به عند الفشل في محاولة، ونوع كالذي نشعر به عند مواجهة ما نكره الخ.
ولندع أيضا بحوث علماء الأخلاق في أن الإنسان في جميع أفعاله يطلب اللذة، ولا يطلب شيئا غيرها، ويهرب من الألم ولا يهرب من شيء غيره، وانه حين يفر من اللذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وانه حين يتحمل الألم فإنما هو يفر من ألم اكبر منه، أو يتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل - ولندع التعرض لما قام حول هذه النظرية من نزاع.
لندع هذا كله، ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة وأثر الألم فيها، فيخيل إلي إنا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة، وإن فضل الألم عل العالم أكبر من فضل اللذة
إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب، أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ، وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق، وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثراً، ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسعفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، ووجد كل ما يطلب حاضرا دائما لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب، ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى كسائر العقلاء - وإنما فضل المجنون لآن نفسه كانت أشد حسا وأكثر ألما.
ولولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لان يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره، ولو نشا قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.
وما قيمة المعري لولا ألمه من الفقر والعمى - لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته، ولا