ويل للأزهر من أهله! كان منيعاً بالدين فابتذلوه بالدنيا، وعزيزاً بالعلم فأذلوه بالمال، ومستقلاً في حمى الله فأخضعوه لهوى الحكم! وكان سُنة واضحة لِهَدْى الشريعة استقام الناس بها منذ ألف عام على عمود واحد، فشبهوا وجوهها بالأنظمة الفجة، ولبسوا صورها بالأعلام المستعارة، ثم وقفوا لدى المفترق المبهم الذي أحدثوه يديرون أعينهم في الفضاء، ويردونها من الأمام إلى الوراء، فلا يرون أقدامهم على أثر، ولا يجدون وجوههم على سبيل!
كان للأزهر، على عهدنا القريب، جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، لأنه المعقل الوحيد الذي ثبت لحملات الغيرَ فانتهت إليه أمانة الرسول، واستقرت به وديعة السلف، واستعصمت في لغة القرآن، واستأمنت إليه آداب العرب، فأرضه حَرم لا يُنتهك، وأهله حمى لا يستباح، وأمره قَدرٌ لا يُرد؛ وكان لعلمائه مكانة في القلوب، ومهابة في النفوس، لأنهم دعاة الله، ووراث النبي، وهداة المحجة؛ ينطق على ألسنتهم، وتتمثل في أفعالهم السنة؛ فمحبتهم السنة؛ فمحبتهم عقيدة، وطاعتهم فريضة، وإشارتهم نافذة
وكان لطلابه كلف به لا يُهتم، وثقة برجاله لا تحد، وانقطاع إلى جواره لا يبغون من ورائه غير فقه الدين وتحصيل المعرفة وتجديد حبل الدعة، فهم عاكفون على معاناة الدرس، قانعون بميسور العيش، لا ينصرفون عن حلقات التعلم بالقاهرة، إلا إلى حلقات التعليم في الريف
كانت صلة العلماء بالحكومة صلة دينية، تقوم على حسم المشاكل بالقضاء، وحل المسائل بالفتوى؛ وكانت صلتهم بالأمة صلة روحية، يجلون صدأ القلوب بالذر، ويكفكفون سفه الجوارح بالموعظة، ويشفون على الجوانح بالمؤاخاة، فكانوا لذلك موضع الاجلال أني حلوا. كنا نرى العالم اذا نزل مدينة أو قرية كان يوم نزوله تاريخاً لا يُنسى: يأخذ الناس فيها حال من الشعور الصوفي يدفعهم إلى رؤيته، فيهرعون إليه كما يهرعون اليوم إلى زعيم الأمة أو إلى رئيس الحكومة، فيتوسمون في أساريره نور الرسالة، ويتنسمون من أعطافه ريح النبوة، ويتخففون على يديه من أوزار العيش وتبعات الجهالة. وطلاب الأزهر القديم لا يزالون يذكرون ما كان في نفوسهم لشيوخهم من الحب والتجلة. كانوا يتحلقون حول كرسي الشيخ من غير نظام ولا ضابط، فيكون لهم على السبق إلى الأمام عراك دامٍ