للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بلالٌ يؤذن

للدكتور عبد الوهاب عزام

كاد الليل ينسلخ عن النهار، وبشرت بالصبح أنفاس الأسحار، والدجى مهود وسنان، سيفزعه عما قليل ذنب السرحان والناس هاجدون وكأنهم أيقاظ ينتظرون صلاة الصبح؛ وكأن آذانهم مصيخة تلقاء المسجد. تتحين دعاء المؤذن، وكأن قلوبهم إبر المغناطيس ترصد قطبها، وتتجه إلى إمامها، والأمام هاجد يرعاه ربه، تنام عيناه ولا ينام قلبه. وملء الأرض والسماء السكينة والسلام.

وسرى في أحشاء الليل كطيف الخيال، اتخذ من الليل جلباباً، وطوى من الصبح قلباً وجاباً، (آدم شديد الأدمة، نحيف طوال أجنأ، له شعر كثير، خفيف العارضين، به شمط كثير) تحمل جمته الشمطاء، تباشير الصباح الوضاء.

ويرتقي جدار المجلس، فيجلس مقلباً وجهه في السماء، ثم ينتفض قائماً، فيضع سبابتيه في أذنيه، فيبعث في حواشي الظلماء، صوتاً يجلجل في الأرجاء: الله أكبر الله أكبر - الله أكبر الله أكبر! أترى فلول الظلام مذءودة تلوذ بالباطل المنهزم، أم ترى الباطل مذعوراً يلتف في تلك الظلم؟ ذلك النور المنبثق من الأفق الشرقي بسمة الفجر الصادق لهذا الصوت الإلهي، بل ذلك النور الوضاء، استجابة النهار لهذا النداء. فما الفجر إلا صوت نوراني، يتلألأ بنغمات ذلك النور الصوتي؛ ليت شعري أيهما الصباح، وأيهما أذان بلال بن رباح؟ ويمضي بلال يصدع قلب الظلام، بشهادتي الإسلام: أشهد أن لا أله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم يحيل بالصلاة والفلاح، ثم يعيد التكبير في تمديد، فيختم بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله!

ويحسب بلال أن صوته لم ينفذ إلى القلوب، فلم تتجاف عن مضاجعها الجنوب، فيثوب بالقوم: الصلاة خير من النوم.

يتهلل وجه الرسول (صلى الله عليه وسلم) لصوت الحق مدوياً في أعقاب الباطل، ويبتسم لصوت الحق عالياً طليقاً يملأ ما بين الأرض والسماء، والمشرق والمغرب. يبسم حين يسمع دعوة الحق في قلب الجزيرة العربية على لسان عبد حبشي. وهل في شرعة الإسلام عبد وحر؟ وهل في سنة محمد عربي وحبشي؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>