يا صاحبي، أي شيطان وسوس لك فرحت تمتهن الوطن والدين واللغة، وجئت تريد أن تسترق الناس منها جميعاً لتذرهم - بعدها - حطاماً خوى من الكرامة والرجولة والإنسانية؟
لقد كان حديثاً عجباً أن تقول (أنا لا أؤمن بالوطن ولا بالدين ولا باللغة لأنها قيود ثقال. وأحر بمن يتحرر منها أن يسود العالم كله.
أما الوطن فهو كلمة براقة تستهوي القلوب الضعيفة وتستغرق الألباب السقيمة، وتخلب العقول الجامدة. على حين أنها - في رأي الفيلسوف - فارغة من المعنى خالية من الحياة. والوطن هو نعرة بالية توارثها جيل عن جيل في غير إمعان ولا رؤية، وهو آثار فكرة التعصب العتيق حين كانت القبائل المتشعبة تنبث في فجاج الأرض ومتاهاتها، تخشى أن يتخطفها الناس من حولها، وهو لفظ جاف لا يحمل في ثناياه إلا صورة من جشع الإنسان الأول وكلبه حين اضطربت الأنانية في نفسه - لأول مرة - فاختار قطعة من الأرض ووضع حواليها الصوى والعلامات ثم قال: هذه ملكي. . هي وطني!)
ونسيت أن الوطن روح تتدفق في مسارب الدم وتخفق بين طيات القلب، وهو تأريخ حي ينبض في ملاعب الصبا ومسارح الشباب، هنالك تحت الدوحة الباسقة على شاطئ النيل، وفي ظلال شجرة الجميز على ضفة الغدير، حيث تداعبهما أنفاس الصبح الندية أو تعابثها نسمات الأصيل الهينة، والسماء صافية والجو صحو، وصوت خرير الماء يصاعد نغماً شجياً يلعب بالفؤاد ويعانق القلب ويهز المشاعر.
هناك في موكب الحياة على بساط الطبيعة السندسي وهو يتراقص في رأى العين ليوقع لحناً عذباً فيه جمال الحياة وجمال الموسيقى. . .
وقلت (أن الوطن فكرة تتفجر من خلالها ألوان من صراع القوميات العاصف وتفور من جنباتها ضروب من الحروب الطاحنة فتدفع العالم ليتردى في هاوية من الهلاك والدمار. . . هاوية ما لها من قرار. . . آه، لو أصبحت الدنيا كلها وطناً واحداً، إذن لانمحت الآثام