. . . وأخيراً. . . عاد الأستاذ الطنطاوي إلى روض الأدب، بعد أن انقطع عن ارتياده حيناً من الزمن طويلاً، حسبنا معه أنه هجرة إلى غير عودة، وذهب بنا الظن (أن الحرفة قد طغت عليه) فصرفته عن الأدب. . . أما وقد رجع، فنرجو أن يواصل المسير، وأن يتبع الركب، فلا ريب أنه قد تخلَّف عنه، ولعله لا يفوَّته بَعْدُ!. . .
أقول هذا بعد أن قرأت مقال أستاذنا الطنطاوي (الذي حبَّب إلينا هذا البلاء الذي نعتز به والذي يدعونه الأدب فبتنا من طلابه. . .) عن الموسيقى القديمة والموسيقى الحديثة، وعمَّا تبعثه الأولى في نفسه من سحر وفتنة، والثانية من اشمئزاز وبغضاء لها ولرجالها. ثم يقول (فلئن كان العلم عالمياً لا جنس له ولا وطن، فالفن لعمر الفن ما كان عالمياً ولن يكون. حاولوا أن تطربوا الإفرنج بغنائكم؛ إنكم لن تطربوا ولا تطربون أنتم لغنائهم، ولكن منا من يستشعر قوتهم وضعفاً، فيخادع نفسه رياء وتقليداً. . .) ويتابع الأستاذ مخاطباً الموسيقى في بلادنا (ألم تدركوا أن أذواق الناس لا تنشرح إلا للشرق الأصيل. . . ما لنا وللجندول وأهل الجندول، ما لنا ولأنغام الإفرنج التي لا طعم لها في حلوقتا؟)
أما أن يدعي الأستاذ أن العلم وحده عالمي، وليس الفن كذلك فهذا بِدْعٌ من القول، بل الحقيقة أن الفن أكثر عالمية من العلم لأنه أقرب إلى نفوس الجميع، وأدنى إلى التذوق والفهم، وابلغ تأثيراً في الإحساس، من العلم. وللقطعة الفنية الرائعة جمال ورونق في كل عين، واثر إعجاب في كل نفس وإن روائع الفن الغربي، لقطعاً قد يكون إعجاب الشرقي بها متعدَّياً إعجاب الغربي، سواء كان ذلك في الموسيقى أو الرسم أو النحت أو غير ذلك من الفنون؛ وكذلك القول في الفن الشرقي بالنسبة إلى الغربيين وأعفى نفسه من التمثيل لذلك. فإن هذا الأمر من البداهة بحيث لا يفتقر إلى إيماء، بَلْهَ تشريح وتمثيل! وإنما نعجب بفن الغربيين، ويعجبون هم ببعض فننا لأن الفن عالمي، هذا مالا شك فيه.
ثم كيف يزعم الأستاذ الطنطاوي أننا لا نطرب لغناء الإفرنج، وأننا (لن) نطربهم بغنائنا؟ هل تجد اليوم شاباً في جميع بلدان الشرق الأوسط لا يحفظ من الأغاني الغربية هذه