عرفت فيمن عرفت من الناس رجلا اجتمع له كل ما يشتهي من جمال في المظهر، كان مديد القامة في غير شذوذ، مكتنز العضلات في غير ترهل، حسن قسمات الوجه في غير تخنث، اشرب لونه حمرة تنطق بما حباه الله من عافية في بدنه، محمود الملبس لا تنقصه فيه أناقة ولا حسن انسجام. وكان يغشى ناديا اختلف إليه جماعة من الإخوان فاستشعرت له أول الأمر هيبة وتوسمت فيه خطرا، وكان أحد الرفاق يتحدث في أمر شديد الاتصال بذاته فرأيت لهذا الرجل نظرة ساخرة. أدركت معها أنه يعلم عن هذا الحديث ما لا يعلم قائله، ولم يطل بي الانتظار حتى رأيته قد استولى على الحديث وأخذ يذكر عن نفسه وتجاربه المتصلة به كثيراً، وتشعب الحديث، وأثار الاستطراد ذكر مسائل مختلفة، وكان هو فارس كل ميدان والحجة في كل موضوع، وكان إذا ما اشتد الجدل علا صوته حتى غلب على كل صوت، وإذا أعوزه في دعوى أن يقيم الدليل، أفحم مناظريه بالضجيج والتهويل. وتكرر التقائي به حتى هان عليّ أمره، وصرت لا أحفل لقول يقوله. ولكني كنت أجد في دعواه العريضة شيئا من الفكاهة يروح عن النفس بعض ما تلقاه من جد الحياة.
وقرأ خبيث من الرفاق في إحدى الصحف خبر اعتصاب الحمالين لخلاف بينهم وبين رؤسائهم، فبيَّت في نفسه أمراً يهتك به ستر هذا الدعي. وأقبل صاحبنا يتهادى في مشية بطيئة وقورة وقد تدلى من بين شفتيه سيكار فاخر. واشرق وجهه بتلك الابتسامة الساخرة التي توحي إلى الرائي هو أن الناس عليه، وعلمه من حقائق الأمور ما لا يعلمون. فتلقاه المداعب الخبيث بتهليل المعجب الذي وقف على ما أخفاه من فعال، وبدا عليه ما يشبه الخجل والحياء لافتضاح مكرمة يأبى عليه تواضعه أن تنشر وتذاع. وقال له الصديق المداعب:(لك الله من بطل! لقد لمست في الأمر أصبعك، وشممت منه ريحك، وقلت منذ قرأت الخبر أنها لا شك إحدى أياديك في نصرة الضعفاء. ولكن نبئني كيف وفقت في جمع كلمة أولئك الحمالين مع انقطاع كل صلة بينك وبينهم، وكيف تم لك تدبير أمرهم؟).
وأشفقت من وقع تلك السخرية اللاذعة المكشوفة على نفس صاحبنا، ووجدت فيها قسوة