الغريزة عبارة عن ميل خاص ونزعة مجبولة في نفس الكائنات الحية منذ ظهورها إلى عالم الحس والوجود. وقد تكون نتيجة المعرفة وليدة التجارب حيناً، كما قد تتجرد عن كل ذلك في معظم الأحيان، وأن ذلك الميل وتلك النزعة تمليهما ضرورة الحياة والكفاح من أجلها.
ذلك الميل وتلك النزعة يتجليان في صورة نشاط تبدو بواكره في مستهل حياة الكائن، ويكون أشبه بالنشاط الفسيولوجي كما يظنه الإنسان لأول وهلة نتيجة لعقل أوروبية. وعمل الغريزة يكون أوضح في الحيوانات ولا سيما الدنيا منها مثل الحشرات مثلا.
أما موضوع الغريزة، فهو من المسائل التي كثر حولها الجدل وتضاربت الآراء إلى حد بعيد، إذ يرى البعض فيها عملا آلياً ميكانيكياً كعمل الساعة، أو فسيولوجياً بحتاً غير إرادي كعملية الهضم، وفريق آخر يعتبرها ناتجة عن معرفة وفهم، أو على الأقل فيها مسحة من الذكاء.
كذلك هم يتساءلون مختلفين عن نشأتهم ووجودها في الكائن: يظن البعض أنها تنشأ كاملة من أول وهلة ومن غير حاجة إلى صقل وتهذيب. ويقول البعض إنها تولد ناقصة بدائية ثم تنمو وتتطور بنمو الكائن. ويقف فريق آخر موقفاً وسطاً بين هذا وذاك ويعتقد بأن بعض الغرائز - وهي الموروثة - تولد كاملة من غير حاجة إلى تطور، وبعضها - وهي المكتسبة - تكون ناقصة تتم وتكتمل شيئاً فشيئاً بمرور الزمن.
يقف الإنسان حائراً إزاء هذه الآراء المتضاربة المتنافرة، وسبب هذا التنافر - كما اتضح أخيراً للباحثين - هو أن بعضهم يخلطبين الغرائز وبين بعض المظاهر الحيوية الفسيولوجية لما يوجد بينها من تشابه يشتد في بعض الأحيان. وأول من ألمع إلى هذا اللبس هو العالم السيكولوجي البلجيكي (لوي فرلين) وفرق بين الغرائز والظاهرات الفسيولوجية، وأن هذه الظاهرات وإن كانت في بعض الأحيان تحتم وجود الغرائز وتدعو لخلقها إلا أن هنالك عوامل أخرى غير العوامل الفسيولوجية كما سيتضح لنا جلياً فيما يلي: