مضى عصر الموت والانحلال في شمال أفريقيا وبدأ عصر جديد يلوح في الأفق، وبذلك لا تضيع السنوات الطويلة التي قضاها في الكفاح سدى. وقد تطورت قضايا تونس والجزائر بحيث أصبح من المستحيل تجاهلها. فلأبواق الاستعمار أن تزعم ما تشاء، وللسلطات المحلية أن تتصرف كما تريد، فإن الفترة الحالية لن تدوم طويلا. إن حالة الضغط والاضطهاد والفوضى التي تشمل اليوم هذه الأقطار العربية الشقيقة، إنما هي مظاهر انهيار يشق طريقه إلى القبر بخطى حثيثة، أما هذه النهضة الوطنية المكافحة الصابرة فهي طليعة عصر جديد. ذلك أن قضايا شمال أفريقيا تخرج من حدودها الضيقة المحدودة، إلى حدود أوسع لم يكن لها عهد بها من قبل، فصوتها يرتفع اليوم في العواصم العربية كلها كما يرتفع في باريس ولندن ونيويورك، وليس هناك من يستطيع أن يقف في وجه شعب صمم على أن يعيش مهما كان الثمن الذي يدفعه في سبيل أن يعيش.
وللاستعمار القاسي الشديد مساوئ لا تحصى، ولكن له حسنة في هذه البلاد، فقد عرف الناس بواسطته أن الحديد لا يفله إلا الحديد، ولذلك لم يوجد فيها من يحاول اصطياد الفرص لأنه لا توجد فرص، وإنما عبئوا جهودهم للمقاومة الطويلة الحافلة بالصبر والكدح والشقاء، فأكسبهم ذلك قوة قل أن يتسلح بها شعب دون أن تصل به إلى النجاح، وبذلك برهنوا على أن بلادهم - بالرغم مما قاسته - غير قابلة للموت.
أضف لذلك أن الوضعية في شمال أفريقيا غير طبيعية، فالناس فيها يحكمون بأساليب بعيدة كل البعد عن أن ترضى ما يصبون إليه بعد أن تعرفوا إلى الحياة الحديثة، ونزعوا إلى الحرية والاستقلال. وإذن فليس هناك بد من أن تتغير الحالة الحاضرة سواء رضي السادة المستعمرون أم كرهوا؛ ذلك أنهم يقفون في وجه التاريخ، ولن يكون من اليسير الوقوف في وجه التاريخ طويلا. . .
ولست أكتب هذه الكلمة لأتحدث عن الاستعمار الفرنسي ومساوئه الشهيرة، وإنما أريد أن أتحدث عن نوع النظام الذي يجب أن تخضع له هذه البلاد الشاسعة بعد أن يزحزح التاريخ هؤلاء السادة الواقفين في وجهه. ما هي قواعد السياسة في شمال أفريقيا الحرة؟ هل يظل