ألممت في مقال (نظرات في أدب المتأخرين) المنشور في عدد مضى من (الرسالة) بحرفة الأدب إلماماً وجيزاً. وقد رأيت أن أجيل القلم في نواح من هذا الموضوع أوجزت القول في بعضها بالمقال السابق، ثم رأيت أنها تحتاج إلى شيء من البسط والنواحي الأخرى جال بها الفكر بعد.
قلت في ذلك المقال:(وكثيراً ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم، حتى عدت حرفة الأدب مجلبة للبؤس وشؤماً على من أدركته).
فقد سارت كلمة (أدركته حرفة الأدب) مسير المثل، تقال في كل أديب يناله شر، وعند كل حالة يمنى فيها بالخيبة والإخفاق. وكل أمر يقترن بالمحن والرزايا معدود في المشئمات، مرمى بجرائره دون نظر إلى الملابسات؛ فالأديب إنسان له حاسة سادسة إلى حواسه الخمس، هي طبيعته الفنية التي تستعمل الحواس الأخرى في إحساسها بنواحي الحياة إحساساً ينفرد به الأديب كما ينفرد ببيان لا يتأتى لغيره من سائر الناس، وهو بفنه هذا مشغول، مستهلك جل قواه، مصروف عن مقومات حياته وضرورات عيشه، فإذا مسه ضر عد أدبه شؤماً وقيل:(أدركته حرفة الأدب).
فلست أرى الشؤم من واقع الأمور، وإنما هو حالة نفسية تنشأ عن اقتناع بأن المتشائم منه يجلب الشر والأذى، ومن مقتضيات هذه الحالة تهيب المتطير منه والإعراض عنه أو الإقبال عليه مع الكره وتوقع الشر، وكأن المتطير يستدعي بذلك ما يخشاه، وكأنه يهيئ نفسه ليكون مهبطاً له؛ فتستجيب له النوائب وتنزل بساحته الكوارث وقد أعد لها.
ولست أرى بأساً على من ينحى عنه خاطر التشاؤم ولا يدع له إلى نفسه سبيلاً؛ وقد اقتنع بذلك ابن الرومي (وهو رأس المتشائمين والقائل: الفأل لسان الزمان، والطيرة عنوان الحدثان) لما أنشده أحد الشعراء وقد علم أنه يتطير:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعت على نفسي فوطنتها على ... ركوب جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب