للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فخذ خلسة من كل يوم تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب

ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح ... تطير دار أو تفاؤل صاحب

راقت هذه الأبيات ابن الرومي، وتأثر بها، فحلف ألا يتطير أبداً (من هذا ولا من ذاك) وأومأ إلى جاره الأعور، وكان يتشاءم منه. فقال له أحد الحاضرين: (وهذا الخاطر من التطير) فهو وإن كان اقتنع رأيه بفساد مذهب التطير فقد غلبته طبيعته فأخطرت له التطير وهو يحلف ألا يتطير!

على أنني أعود من هذا لأشاطرك ما لا بد أنه يجول بذهنك وهو أن الأدب لم يكن دائماً قريناً للبؤس والحرمان، وليس كل أديب كيعقوب الخزيمي القائل:

ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم

ويخطر لك هذا لأنك تعلم أن الأدب نفع ورفع كثيرين، فأنالهم المال، وأبلغهم المناصب. وقد اختلفت حظوظ الأدباء من حيث انتفاعهم بأدبهم أو (إدراك الحرفة إياهم) باختلاف أسباب، بعضها من ذات أنفسهم، وبعضها خارج عن ذواتهم؛ فالنوع الأول كاباء الأديب واستنكافه أن يسلك مسلكاً يراه غير لائق، وليس في المجتمع الذي يعيش فيه غيره من طرق الانتفاع بالأدب، على حين لا يتحرج أديب آخر من ذلك؛ أو أن يكون الأديب واسع الحيلة أو ضيقها، أو حسن التدبير أو سيئه. والنوع الثاني من تلك الأسباب كظروف الزمان والمكان، فهذه دولة يشجع رجالها الأدباء، على مختلف بواعث التشجيع، وبمختلف وسائله؛ وتلك أخرى يحتجن أصحابها البر عن الأدباء، أياً كانت أسباب هذا الاحتجان. وقد لا يكون الأديب بحاجة إلى الانتفاع بأدبه، لأن له من ثرائه أو كسبه من طرق أخرى ما يغنيه عن ذلك، فيتنقل بين زهر الآداب ويغرد على أفنانها لا لشيء إلا ليرضي حاجة نفسه، ويمكن (حاسته السادسة) من القيام بوظيفتها.

وبالطبع كانت تروج كلمة (أدركته حرفة الأدب) كلما توافرت معوقات الاكتساب، وأنت تراها قد قلت في عصرنا هذا فإن التأليف والصحافة قد أصبحا سوقاً نافقة للكتاب وخاصة المعروفين منهم لدى جمهور القراء، وقد ربح بعضهم في السنوات الأخيرة ما يعد من جملة أسباب (التضخم النقدي) ومما يؤسف له أن هذا الربح الوفير قد أغرى الكثيرين بكثرة الإنتاج التي لا تتم إلا باللهوجة والسلق، ولا سيما سلق البقول التي تجمع من حقول

<<  <  ج:
ص:  >  >>