للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هجرة مُحمّد

للأستاذ علي الطنطاوي

. . . في هذه الأيام التي ذاق فيها الأغنياء عضَّةَ المجاعة، والأقوياء ذِلّة الضراعة، ومشى داء الهمجية إلى ديار المتمدنين، وشمل الظلام مدائن النور، وهان الحق والعلم والفن، وعزَّ السيف وغلى الرغيف. . .

في أيام الحرب السود، ولياليه العوابس، تجتمعون آمنين مطمئنين، غير جائعين ولا مروّعين، فاحمدوا الله على نعمة السلام فلولا خطرها ما كانت تحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .

يا سادة:

في المشرق والمغرب، من شواطئ الأطلنطي إلى سواحل الهادي، وفي القرية الخاملة والمدينة الآهلة، يجتمع هذه الليلة إخوان لكم مثل اجتماعكم، قد تناسوا الحرب وأهوالها، والغلاء والبلاء، والموت آتياً من الأرض ومنصبّا من السماء، ليحتفلوا في أيام الحيرة والخوف، بذكرى الهدى والأمان، ويهتفوا باسم من أدرك العالم حينما دهمه ليل، فأطلع عليه من نور الحق فجراً ساطعا، ليهتفوا باسم سيد العالم: (محمد). . .

يا سادة:

إن لكل أمة مواسم تجتمع فيها، وذكريات تحيْيها، وعظماء يمجدهم خطباؤها، ومآثر يفخر بها شعراؤها، ولكن الذكرى التي اجتمعنا لأجلها، لا تقاس بها الذكريات. . . إنها أجل منها وأعظم: إن الحادث الذي جئنا لتمجيده لا يشبه الحوادث، إنه أعز على التأريخ منها واكرم، إنه أسمى من كلُّ مأثرة فخرت بها أمة، وأعتز بها جيل، فإذا أردتم أن تروا فيم كان جلالها وسموّها، فدعوا هذا الحاضر لحظة، وأوغلوا معي في مسارب الماضي مرّوا بين القرون وتخطوا أعناق السنين، حتى تقفوا على القرون السابع الميلادي، وقد أهلّ على دنيا رثت فيها حضارة الأولين، ونسي الدين، وأضحت العبادات عادت، والعلم ترديداً بلا فهم، والفن تقليداً بلا تجديد، وأخذ الملوك الطغاة بمخانق الشعوب، ونخرت الفوضى عروش الطغاة، وسكت العلماء وهربوا إلى الصوامع، وأيس المصلحون واختبئوا في الأغوار، وأوشكت الإنسانية أن تتردى في هوة ما لها من قرار!

<<  <  ج:
ص:  >  >>