الترف من مستتبعات الحضارة، تتجه إليه الأمم عقب عصور النهضات، إذ يلذلها الركون إلى الراحة واجتناء ثمرات مجهوداتها التي بذلتها في عهود النهوض والكفاح والتمهيد، وتميل إلى الاستمتاع بخيرات الحياة من دعة ولذة وسرور في ظل السلام والنظام اللذين تنشرهما الدولة بعد أن توطدت أركانها، وفي بحبوحة الثروة والنعمة اللتين أثلهما جهاد السنين والأجيال، فيهجر الشعب رويداً رويداً حياة الخشونة والقناعة والجد ويستكثر من أسباب الراحة والبهجة، وإشباع مطالب الجسم والنفس، وبدوات الخيال والشهوة
ويكون أشد الأمم إقبالاً على وسائل الترف ومضيّاً إلى غاياته، أشدها من قبل تخشناً في العيش، وأعظمها جلاداً في ميدان تنازع البقاء، وأتمها ظفراً وغلبة على البلدان، لما تجنح إليه من الراحة بعد الجهد، والاستمتاع بعد الحرمان، ولما تغدقه عليها انتصاراتها من أسلاب أعدائها وأرزاقهم، وما تطلَّع عليه من وسائل لهوهم وترفهم؛ ومن ثم انتشرت موجات هائلة من الترف في مصر الفرعونية عقب فتوحها الكبيرة في آسيا، وفي أثينا عقب امتداد سيادتها على سواحل بحر الأرخبيل وجزره، وفي روما بعد اتساع سلطانها شرقاً وغرباً
وكلتا الأمتين العربية والإنجليزية خرجتا من بداوة وخشونة عيش إلى حضارة وحياة دعة؛ وكلتاهما أقامتا إمبراطورية مترامية التخوم تعج نواحيها بالخيرات والكنوز، وَسرَت إليهما من جراء ذلك عدوى الترف وبدا أثرها في أدبيهما. بيد أنهما تفاوتتا تفاوتاً كبيراً في مدى تأثرهما بذلك الترف، فكانت الأولى على الأرجح أعظم الأمم أخذاً بوسائله وتفنناً في ضروبه؛ وكانت الأخيرة أقلها انقياداً لتياره وأشدها تشبثاً بأهداب الاعتدال
فالأمة العربية ينقسم تاريخها الاقتصادي إلى ثلاثة أطوار كبيرة: فالطور الأول وهو عهد الجاهلية أقرب إلى الفقر والخشونة التي فرضتها على العرب طبيعة بلادهم الضنينة، مما أورثهم صفات القناعة والصبر والجلد واحتمال المشقات، كما أورثهم الجود وقرى الأضياف، فتمدحوا بكل هاتيك الصفات وامتلأ بها شعرهم، وجاء ذلك الشعر في جملته قوياً