(كل شيء يزدهر في مملكة تمتزج فيها مصلحة الشعب بمصلحة الملك) تلك كلمة قالها (لابروبير) في كتابه (الأخلاق) تقابلها كلمة أخرى في كتاب للهند عن رجل دخل على مليكه فقال له: (أيها الملك إن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك. .)
وضعتني هذه الأقوال لحظة موضع التأمل وقلت في نفسي إن هذه النظرة إلى (الملك) لا يمكن أن تكون وليدة الأوضاع الاجتماعية وحدها أو المبادئ السياسية أو العقائد الدينية. فالشرق والغرب لا يتفقان هكذا إلا على شيء يخرج من نبع طبيعتنا الإنسانية. إن الشعوب منذ فجر حياتها كانت دائماً ترى الأمة هي الجسم والملك هو (الرأس) بمعناهما الطبيعي (الفسيولوجي). هذا صحيح لا ريب فيه، والملك هو الحاكم المطلق في نظام الملوكية المطلقة. أما والأمة في النظم الديمقراطية هي التي تتولى الحكم فمن الحق أن نتساءل عن صحة تلك النظرة القديمة. قليل من التأمل يهدينا إلى هذه النتيجة: إن الأمم في شبابها كالفتى، تستهوي عقله كل مظاهر القوة، وتسيطر على رأسه كل أحلام الفتوة؛ فهي تجمع كل السلطة لتعطيها ذلك الحاكم المطلق الذي يدير كيانها ويحرك جسمها ويهز عضلاتها، إلى أن تمضي أيام الصبا وفورة الشباب وتدخل الأمة في طور الرجولة والاستقرار، فتحزم أمورها المادية بنفسها، وتترك مليكها يشغل بما يشغل به الرأس الحقيقي من شئون الفكر ومسائل الثقافة. وهنا نرى الملك في الشعوب الديمقراطية قد انصرف عن وظيفة الحكم المادي إلى وظيفة أخرى تشبه وظيفة الرأس في جسم الإنسان المفكر، فينقطع هو إلى التوجيه الفكري لأمته وتشجيع العلوم والآداب والفنون، وختم كل مظاهر النشاط الأدبي والمادي في الدولة بطابع الحضارة. فالملك في كل زمان ومكان هو الرأس دائماً؛ على أنه في الأمة الفتية رأس فتي، وفي الأمة العريقة رأس رجل.