أيها النيل! يا أغنية الأزل! يا حابي العزيز! مالي كلما مررت بشاطئك طافت بي الأحلام، وازدحمت في روعي تهاويل الماضي، ولم أدر ما مسّ القُبل النحيلة التي تطبعها نسماتك على أفواف الزهر، وأفنان الدوح، وصفحة الماء، وخيال الشاعر، وجبين النوتي، وخدود العذارى؟!
ما لي أنسى جمال الصباح المفتر، والحدائق الضاحكة، ولازورد السماء الذائب في تبر الشمس، وأمواه الطبيعة المتبرجة، وعبير الربيع الفواح الذي يعطر جنباتك، ويتضوع فوق حفافيك، ويملأ ملاعبك بهجة، ويغازل الشعر والفن والجمال والحب. . . ما لي أنسى كل ذلك حينما تتصل روحي بروحك، وينبض قلبي بالذي ينبض به قلبك، فأحس كأنما ماؤك دموع حِرار تسكبها عيون الفراعنة، وكأنما قطراتك أحقاب المجد المؤثل التي حضّرت الدنيا، ومدينت الناس، وهدت القلوب الضالة إلى الله الحق، وسارت بموكب الإنسانية نحو النور المقدس الذي يهدي للرشد، وانتشلت العقول من غرائز الغابة بما أشاعت فيها من بينات الهدى والعرفان!
فأين هو هوراس اليوم؟ إنه جريح مهيض الجناح، لأنه كما رأرأ بناظريه في سمائك يا نيل رأى بُزاةً لا تهتف بعظمتك، ولا تسبّح بحمدك ولا تقدس لك. . . بُزاة لا ترعى لك كرامة لأنها تعدك فريستها. . . فإذا أدار هوراس ناظريه إلى الأحفاد وجدهم مشغولين عنك بالعبث، منصرفين عن الجد في أمرك إلى اللهو ومتاع الغرور!
ما أروع ذكريات الصبا على ضفافك يا نيل؟
لقد كنا نجلس فوق حفافيك وفي يد كل منا سنارة يُداعب بها صغار أسماكك كلما طلعت شمس أو غابت ذُكاء. . . وما أنس لا أنس يوم مرت بنا إحدى بواخر شركة كوك