قال الشيخ لفتاة وهما يسلكان طريقهما في بعض أرباض الكوفة: مل بنا يا بني عن هذا الطريق؛ فليس يطيب لي يومي إذا وقعت عيناي إلى أنقاض تلك القلعة المهدومة؛ كأنما يجثم وراء كل حجر من أحجارها المتناثرة نحسن يتربص لكل عابر سبيل. . .
قال الفتى منكراً: وي! كأنك تزعم يا أبتي أن في بعض الجماد ما ينفع وما يضر!. .
قال الشيخ وقد أخذ طريقاً آخر إلى الوجه الذي يقصده، وقد استند كفاً إلى كتف الفتى وكفاً إلى عصاه: نما هو يا بني ما قلت، وأنه لا نافع ولا ضار إلا الله؛ وأعوذ به من كفر بعد أيمان؛ ولكن ذكريات تتراءى لي من هذه الخربة كلما نالتها عيناي فتتجسد لي في النوم واليقظة صوراً حمراء دامية؛ لقد عمر أبوك طويلاً يا فتى ورأى ما لم ترى؛ ولعلك إن تعمر مثل عمري فتتحدث إلى بنيك بما رأيت وما سمعت من أنباء هذه القلعة المشئومة!. .
استشرفت نفس الفتى إلى جديد يقصه عليه أبوه من أنباء الماضي، وأن أباه لراوية أخبار ومحدث تهفو النفوس إلى حديثه ويرهف السمع؛ ولكن الشيخ مما أهوى الزمان منه لم تكن به قوة على حديث طويل وهو يمشي؛ فلما بلغ داره وتخفف من ثيابه جلس إلى وسادته ليستأنف حديثه عن تلك القلعة قال: لقد رأيتها يا بني منذ بضع وخمسون سنة، وكنت يومئذ فتى في مثل سنك، والمسلمون حديثو عهد بهذا المصر، وأميرهم فيه سعد بن أبي وقاص، فلما بصر البلد وشرع طرائقه ونظم ديوانه أمر أن تنشأ هذه القلعة وأتخذها داراً للحكم؛ وقد كان يعد مستجاب الدعاء يا بني؛ وكأني به حين حفر أساسها قد دعا الله أن يجعلها عصمة للمسلمين من عدوهم؛ ولو أنه أطلع على الغيب لكان دعوته إلى الله أن يجعلها عصمة للمسلمين من شر أنفسهم؛ إذن لارتدت عنها شهوات المبطلين وعصمة أهل هذا المصر من أن يسفك بعضهم دماء بعض كما عصمتهم من عدوهم؛ فما طرق الكوفة عدو مناهل الشرك منذ مصرها سعد وأنشأها بها هذا الحصن أو يسفك بها كافر دماً؛ ولكن اتخذوها مطمعة يسفك بها بعضهم دماء بعض. . . قال الشيخ:
في هذه القلعة يا بني، شهدت رأس الحسين بعد أن قتله أهل البغي دون الفرات شهيداً مظلوماً وحالوا بينه وبين الماء، لا يشرب من ظمأ، ولا يجوزه إلى مأمن، ولم يكفهم ما