ما عليّ وقد تهت بين الجبال في البحث عن المدينة الضائعة، ملبياً نداء المجهول، مبتعداً عن ثقل الحضارة؛ أن أنتقل مع (دوهامل) بين الأزاهير؛ فأستنشق العطر، وأرشف الحكمة، وأنعم بهدوء البال.
الحق أن ثقل المدنية يدفع إلى الهرب منها؛ وهذا ما فعله (دوهامل) حين فر إلى حدائق (فالموندوا) في (إيل دوفرانس) فتمتع بالزهر، وسكر بالأرَج، وحلم بحكومة الحدائق. . . فخط رسومها، وبين خططها. . .
هاهي ذي الطبيعة البكر، لم تلمسها يد ولم تطأها قدم تنمو على غير نسق، ودون نظام. فإذا امتدت إليها يد الإنسان ورعتها بالتهذيب، وجملتها بالترتيب، حَلَتْ ونَمتْ. وهاهي ذي الخُضارات والنباتات تربو بفن البستاني، وتزهر بالعناية والحرث والسقيا، ففنٌّه إذن يفيد. إنه حياة ثمرتها الإبداع والجمال. . . أفلا نستطيع أن نجني من ذلك عبرة تتبعها في حكومة الناس. . .!
هذا ما يبدأ به دوهامل كتابه. . . على أنه يصف بستانه الذي حكم بحكومته أنه ليس بالكبير ليقصر الإنسان عن العناية به، وليس بالصغير ليوجب إهماله، وليس بالخيالي كبستان الأب موريه، ولا بالبارع كبستان (بلوميه) الذي ابتدعه هوجو في البؤساء. لا. . . ولكنه وسط بين أولئك. ومهما يكن من أمر، فإن هذا البستان يوجب العناية ويدفع إلى العمل: إنه يتطلب جناناً بارعاً، وعملاً متواصلاً، ونظاماً سائداً؛ وعندئذ يطيب الغرس، ويتألق الزهر، ويحلو الثمر، ويربو القطف.
لا جرم أن النظام سر الإبداع وسر الجمال، وهو الذي يحيي النفوس ويرهف الأذواق، ويخلق النبلاء. ولابد لكل مخلوق منه، حتى النباتات؛ فينبغي أن تخضع لقانون تتبعه، وتسلك نهجاً تسير فيه. لكن ما الذي يكون إذا أُهمل البستان، فنسيه الفكرُ الذي ينظِّمه، وجَفتْه الأيدي التي تعتني به. . .؟
لاشك أن ذلك البستان يميد من الفرح في أيامه الأُول؛ فتسكره الحرية، وينطلق من النظام الذي كان يراه قيوداً فيعيش على هواه: نوم دائم، واستقرار طويل، وخمول لازب؛ وفجاءة