للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تعتلّ النباتات الضعاف لسعة حريتها، فتعبّ الماء الكثير. . . وتبلى. ثم تغرق الأزاهير الصحاح في الماء فتندى، ثم تروى، ثم يداخل سوقها الوهن، فتصبح كما أصبحت من قبل أخواتها؛ وتفسد الثمار التي تركت على أشجارها فلم تقطفها يد الجنّان، وينثر الهواء البذور في الأرض فتضيع، وتستولي الأعشاب الوحشية على الممرات، وتزاحم النباتات الطائشات الأزاهير الصغار. وعندئذ تسود الفوضى، ويحكم البستان ثلاثة أصناف من الأعاشيب، يرجع إليها الأمر، وتكون الحكم والخصم. ثم يتقاسمن البستان، وتنشأ حولهن أزاهير بورجوازية تكون من الأعوان والأنصار. ثم تغتنم هذه الأزاهير فرصة الفوضى فتنتشر هنا وهناك. فإذا مضى الشتاء وأقبل الربيع، وجاء في موكبه النور والجمال. . . لم تجد في البستان الحياة والرونق، ولا الجمال وبراعة النسق، ولا الحرية المهذبة والنظام. . . بل تجد الاضطراب والفوضى والظلام، وترى بضعة أعشاب أنانية، شرسة، تحكم بعنف، ولا تتراجع أمام شيء، لتشبع نهمها، وتغذي نفسها بالبطش والشر والانتقام.

على أن سلطة رعاع العشب لا تدوم. فهناك، على حفافي البستان تقوم برابرة الأشجار. . . في الغابة. وفيها تجثم قوة مخيفة لا تعرف ولا توصف. لقد كان فن البساتني يوقفها، لأن النظام الذي نراه رَّفافاً في جنبات الحديقة كان يخيفها، وكان يدفعها إلى احترام من يتبعون النظام. أما الآن. . . فلا شيء يمنعها عن التقدم.

ورويداً رويداً تتقدّم الغابة فتستعبد البستان بقوة لا تغالب، وجبروت لا يٌقهر؛ فتقضى على الثائرين الصغار، وتبطش بالفاسدين الكبار؛ ثم تنمو وتترعرع حتى يأتي يوم يمّحى فيه البستان ويغيب في ظلال الشجرات العتاق. . . ويعود عالمنا كما بدأ مضطرباً مظلماً موحشاً. فالنظام لا جرم سيد الكون، وإن فن الحكومة - حكومة الحدائق - يدل على أنه لابد من خضوع الطبيعة لسلطةٍ ما تقودها نحو النظام، لأن الطبيعة هي حياة أصناف وحشية عندها، وموت أصناف أخر، واستخدام أصناف ثالثة. أما فنّ الجنّان فهو الذي يقاوم قوى الطبيعة الجبارة. فيحمي الأزاهير الجميلة لأنها أرق النباتات، ويضع كلاً في موضعه، ويحدد ذلك الموضع والمكان؛ ويساعد الضعيفة منها؛ ويخفف من غلواء ذوات الطيش والإقدام، ويضع مجموعة من القواعد ملؤها الحكمة والانسجام تكون قابلة للتطبيق والاتباع.

ولابد من وقفة صغيرة. إن السلطة ضرورية، ولكن ينبغي التفريق بينها وبين العنف، وإلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>