ود توفيق لو يهجر المدينة وأهلها ويقطع صلته بالناس فترة من الزمان، فإنه ليجد لذة ويحس أنسا أن يفارق هذه الصور التي يطالعها وتطالعه كل صباح ومساء، لقد أطافت به نوبة من الضيق والملل حتى لا يلقى أهله إلا بوجه عابس وطلعة متجهمة، ودق حسه حتى أصبح سريع التأثر قريب الانفعال. وكان في إجازة طويلة، والجو حار يهيج الأعصاب ويثير النفس ويبعث على السأم؛ وإنه ليعيش بين أهله ولكنه يشعر بالوحشة والانفراد فلا طاقة له على البقاء في البيت ساعة من نهار، ولا يجد في القهوة ما يسلي نفسه ويشغل فراغه؛ وقد هجره أصدقاؤه جميعاً إلى المصايف أو إلى بلادهم وخلفوه ونفسه يصارع الهم والوهم والوحدة والألم. .!
وتصورت في خياله القرية التي مس ترابها جلده منذ ربع قرن، والتي لا يذكر - لبعد العهد - متى هاجروا منها إلى المدينة، ولمه. . . لاشك أنه سيجد هناك من جدة العيش وطرافته ما يحمل عن صدره أثقال الهموم، ويهدي إلى نفسه الموحشة بعض الأنس والهدوء والدعة.
وتراقصت أمام عينيه صور جذابة من حياة القرية ويسر الحياة فيها بعيداً عن أسر التقاليد وتكاليف الحضر؛ وحضرته ذكريات حلوة من زياراته القليلة لأخته في القرية، فذكر مجالسه مع شبانها على حافة الساقية تحت شجرة التوت الغليظة تساقط عليه ثمراً شهياً، ورياضاته في جلبابه الفضفاض تحت المعطف الأبيض على شاطئ الترعة وبين الحقول، يتملى بجمال القرويات غاديات رائحات من الترعة وإليها أسراباً يجررن الذيول، ويحملن الجرار على رؤوسهن، ويهمسن بالغناء الساحر تسيل في نبراته الرقة والعذوبة والحنين. وذكر مجالس الأنس والسمر في الليلة المقمرة على مصطبة الدار، وحديث القرويين ينتقل في لذة وسحر بعيداً عن التزويق والإدعاء الفاخر. . . وزهته مظاهر التبجيل والاحترام التي تحوطه هناك.
وفي اليوم التالي كان القطار يغذ السير بتوفيق إلى القرية، وقد أشعل بين إصبعيه دخينة وسبح في أحلام لذيذة بهدوء القرية وسحر بناتها. . .