وتلقته أخته بالترحيب والعناق، وجلست إليهقليلاً تحدثه ويحدثها، ثم تركته لتهيئ له الطعام بيدها، طعام القرية الشهي الدسم اللذيذ. وتوافد عليه عارفوه وشبان أسرته يحيونه ويتجاذبون وإياه أطراف الحديث يقطعون بين فتراته بالتحية المكررة والسؤال عن الصحة والأحوال. . .
وخرج معهم في العصر يطوف بأزقة القرية يتعرف إلى الوجوه والأبنية. واخترق سبلاً وعرة بين الحفر وكومات السماد، وبيوت متواضعة متقاربة كأنما تدانت للعناق. وانتهى به المطاف في دار له بها عهد، لأن صاحبها من ذوي قرابته، واجتمع لفيف من شبان القرية وشيوخها يبعثون التاريخ، ويتناولون شتى الذكريات، ويخوضون في كل حديث، ويتبادلون أنباء القرية وحوادثها، وأنباء السياسة أيضاً، وإن لهم في السياسة أحاديث لا تخلو من حكمة وبعد نظر.
وأعجب توفيق بحديثهم كما تعجب بحديث الطفل، فأنصت إليهفي لذة وأنس، كما يستمع السائح المؤرخ إلى خرافيات دليله الجاهل عن سر أبي الهول وأطياف وادي الملوك.!
وأديرت فناجين القهوة وانعقدت في جو الغرفة سحائب الدخان، واشتد الحر وأسال العرق على الجباه؛ وشعر توفيق أنه يكاد يختنق وأن أعصابه تخونه، وهم بالانصراف ولكنهم ألحوا عليه أن يجلس فجلس، وأخذوا في حديث الشياطين والجن، فراح كل واحد منهم يحدث بما سمع وما رأى! وتفننت عبقرية الجهل في اختراع القصص المروعة والروايات الغريبة، وطفقوا يعددون الشياطين بأسمائها وحوادثها وضحاياها. . . وأشار (الشيخ) بيده فأنصتوا ومالوا برؤوسهم إليهوقد أخذ يرقص شاربه وترتجف شفتاه في انفعال عصبي، وشرع يقص على الحاضرين قصة العفريت الذي كان يتسور عليه البيت وهو شاب ليالي متتابعة، فيقاسمه طعامه وشرابه وفراشه أيضاً فلا ينصرف إلا مع آذان الفجر، والزنجية الحسناء التي كانت تصحبه ليالي فتحتل موضعه من الفراش، وتضطره أن يقضي الليلة معقودة يداه خلف ظهره ورأسه بين ركبتيه إلى حائط الدار، ثم لا يفارقه العفريت وصاحبته قبل الصباح إلا بنفحة من دراهم، أو عصوين من نار تلهبان ظهره، جزاء رضاه أو سخطه على ما يصنعان. .!
وكان حديثاً غريباً على الضيف فحاول أن يتفلسف وينكر ويعلل، ولكنهم أنكروا منه ذاك،