في مصر الآن اتجاه عام نحو التفكير المذهبي، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الأدب. وهو اتجاه يبشر بالخير، أو على الأصح بالرغبة في الخير. وذلك لأنني لم أستطيع بعد أن أطمئن إلى أساس هذا الاتجاه. ومصدر عدم الاطمئنان هو أنني لا أكاد بعد أتبين وجود تفكير فلسفي يتشعب مذاهب مختلفة، فتستند إليه مذاهبنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية. ونقصد بالفلسفة وبالتفكير الفلسفي التفكير الإنساني الذي يتناول ملكات الفرد وآماله وآلامه وكافة روابطه بالحياة والمجتمع؛ وأما ما وراء الطبيعة والجدليات والمنطقيات، فذلك ما لي أمل تكرار القول في جدبه وعدم غنائه، لأنها لا تعدو أن تكون رياضة عقلية.
لسنا نملك إذن حتى اليوم فلسفات إنسانية متميزة، وهذا هو السر في أن تفكيرنا المذهبي في نواحي النشاط الفكري المختلفة لا يزال تقليداً للغرب لا يقوم على أصالة نفسية حقة، وأوضح ما تكون هذه الحقيقة في فهمنا لمعنى المذاهب الأدبية. فنحن نظنها طرقاً فنية يقصد إليها الكاتبون قصداً، فإذا بأحدهم كلاسيكي والآخر رومانتيكي. وإذا بهذا واقعي وذاك مثالي، عقلي أو عاطفي، اجتماعي أو فني، وما إلى ذلك من المذاهب والاتجاهات، وهذا فهم خاطئ؛ فمذاهب الأدب - كما يشهد التاريخ - قد كانت دائماً حالات نفسية عامة خلقتها الحوادث، وكيفتها الظروف، وإن لم يمنع ذلك الاتجاه العام من أن تتميز بداخله نفوس الشعراء والكتاب بسماتها الخاصة.
وفي تاريخ الأدب العربي ذاته أمثلة لتلك الحقيقة. فالشعر العاطفي، وبخاصة الغزل، كما ظهر في الحجاز في صدر العصر الأموي، والشعر العقلي، وبخاصة الهجاء، كما ظهر في العراق في ذلك العصر أيضا، والشعر الفني المصنوع، وبخاصة المدح، كما ظهر في الشام عندئذ، حيث كان مقر الملك، ثم تيار الشعر الإباحي، شعر الخمر والغزل بالمذكر، والتكالب على اللذات، كما عرفه العصر العباسي الأول، والشعر الفلسفي الذي بلغ قمته عند أبي العلاء، كل هذه الاتجاهات كانت في حقيقة أمرها حالات نفسية. وما أحب أن أعيد القول في انصراف أهل الحجاز عن الكفاح في الحياة والمناضلة عن مجد الإسلام