البلاغة كسائر الفنون طبيعة موهوبة لا صناعة مكسوبة. فمن حاول أن ينالها بإعداد الآلة وإدمان المزاولة وطول العلاج وهو لا يجد أصلها في فطرته، أضاع جهده ووقته فيما لا رجع منه ولا طائل فيه. قال أبو العباس المبرد:(إنه ليس أحد في الخافقين من يختلج في نفسه مسألة مشكلة إلا لقيني بها وأعدني لها؛ فأنا عالم ومتعلم وحافظ ودارس لا يخفى علي مشتبه من الشعر والنحو والخطب والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار عن فلتة، أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصده نصب عيني، ثم لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان. ولقد بلغني أن عبيد الله ابن سليمان ذكرني بجميل فحاولت أن أكتب إليه رقعة اشكره فيها، فأتعبت نفسي يوماً في ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها. وكنت أحاول الإفصاح عما في ضميري فينصرف لساني إلى غيره)
ذلك اعتراف صادق من أبي العباس يقصد به توجيه الحائر إلى التوفر على ما يحسن، وتنبيه المغرور إلى الانصراف عما يسيء
الناس كلهم يتكلمون ولكنهم ليسوا جميعاً خطباء؛ والمتعلمون كلهم يكتبون ولكنهم لا يستطيعون أن يكونوا كلهم بلغاء؛ والرسم مادة مقررة في مدارس الدنيا ولكنها لا تخرج في كل حقبة غير رفائيل واحد. والموسيقيون ألوف في كل أمة، ولكن الذين يستطيعون أن يؤلفوا رواية غنائية نفر قليل.
والمعضل من الأمر تعرف الطبع الأدبي في صاحبه إبان التنشئة، فقد تكمن العبقرية في الفنان حتى يبلغ الأربعين، كما حدث للنابغة الذبياني في الشعر، ولجان جاك روسو في الكتابة. وقد يجر كمون الطبع في سن التوجيه إلى الخطأ في استغلال المواهب، فيتعلم المرء علماً أو يعمل عملا وهو بطبعه مخلوق لغيره؛ فبيير لوتي خُلق أديباً كاتباً ولكنه دفع إلى البحارة؛ وعلي طه خلق أديباً شاعراً ولكنه دفع إلى الهندسة، وحافظ عفيفي خلق مصلحاً اجتماعياً ولكنه دفع إلى الطب؛ فلو أن هؤلاء العباقرة نشئوا على مقتضى الطبع والاستعداد منذ الحداثة لكان نبوغهم أتم ونفعهم أعم ونتاجهم أوفر
وقد يخدع المرء عن طبعه فيظن نفسه كاتباً وهو معلم، أو فيلسوفاً وهو صوفي، أو مؤرخاً