لمحت في ذات صباح، وأنا في الشمس انفض عن نفسي بقية من ليل، هرَّا مهزولا يسير متوجِّسا متسرِّقا على مقربة مني؛ ولم يطل بهذا الهرّ ارتيابه وتوجسه، وتحقق له سوء ظنِّه بكلاب الحي، إذ لم يمض إلا قليلاً حتى أقبل عليه من إحدى الجواد القريبة كلب بطِر شديد الجلب شديد العزم على أذيته، كأن له ترة قديمة عنده وحسابا ينوي وفاءه.
وأدرك هرنا أي شيء لا بد لاحق به، وأدرك كذلك أن الهرب ليس بمنجيه ولا مخلصه من هذا الذي أخذ عليه الطريق وسد المهرب. فاستدار في الحال وازبأر وهرَّ هريراً وأبدى عن أنيابه، وأتأر بالخصم بصره، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وتنفش شعره، وتقوس ظهره، وشال ذنبه، ووقف يتحفز.
ولم يفت كلبنا المعتدي مغزى ذلك جميعاً، ووقف تلقاءه يرمقه ويروزه ببصره ملياً، حتى إذا بدا له أن الهجوم من الناحية الأممية - وقد حصنتها مخالب مرهفة وأنياب حديدة - قد لا يخلو من خطر أكيد، انفتل منسلا كدأب الكلاب، وباغته من الخلف مباغتة استطار لها لبُّه وانخلع قلبه. وأقبلت كلاب الحي تتعاوى من بعيد ومن قريب، وكلها في البغي والاثم سواء، فكأنها وكأنه ما عناه الشاعر حين قل:
تكاثرت (الكلاب) على خراش ... فلا يدري خراش ما (يصدُّ)
وهممت عندها أن أقوم وأنجد هرنا المسكين وأذب عنه هذه العرجلة الباغية من الكلاب، إلا أن هرنا لم يدع لي لأتدخل، وحلَّ الإشكال بطريقة مسددة من إلهام الطبع، وهداية الغريزة، واستعداد الفطرة، إذ عمد إلى هذه الكلاب يستلُّ سخيمتها ويزيل شرَّتها بالاستسلام لها والكف عن قتالها، ولسان حاله يقول:
ولو كان (كلبا) واحدا لاحتملته ... ولكنه (كلب) وثانٍ وثالث
ولم تنتظر الكلاب منه حركة كهذه، فوجمت حياله تفكر ماذا هي صانعة بعد الذي رأت من استسلامه وانقطاعه عن كل مظهر من مظاهر الخصومة والدفاع، وكأن كلابنا فهمت عنه ما أراد وفطنت إلى مغزى حركته تلك، وأدركت دلالتها ومعناها، فابذعرَّت قانعة بما هيأ لها هرنا المغلوب من معاني الفوز والغلب؛ وقام هرنا وسار لطيَّته يرهف سمعه ويقِّلب