يجتمع اليوم في مصانع العالم ومخازنه من أسلحة الحرب وأدوات الهلاك ووسائل التدمير ما لم يجتمع مثله قط في تاريخ الإنسان.
فهل يعقل العقل أن تلبث هذه الآلات مشلولة معطلة ينتهي أمرها بانتهاء صنعها ويقف الخطر منها عند حد التخويف والإنذار؟
وإذا هي استخدمت فيما صنعت له وانطلقت من عقالها وفعلت كل ما يخشى من فعلها الموبق الوخيم، فماذا يبقي من الحضارة؟ وماذا يبقي من تاريخ الآدمية بعد أن عبر هذا الشوط الطويل في آفاق الزمان؟ ألا تكون النهاية؟ ألا نرجع كرة أخرى إلى حالة بين الهمجية والحيوانية ينقطع السلم بعدها فلا نهتدي منه إلى طريق صاعد، ولا نعود - إذا ملكنا رأينا - إلى تجربة قد رأينا في خواتمها ما يصد النفوس عن البدء فيها؟
أكبر ما يرجوه الآملون في مستقبل الإنسان أن تنقبض هذه الشرور الجهنمية في محابسها كما تنقبض الشياطين في القماقم، فتخيف الناس خوفاً يعصمهم من آفاتها ويذودهم عن اللعب بنيرانها
فإن لم يصدق هذا الرجاء فأكبر الرجاء بعده أن تصمد البنية الآدمية للخطر المحيط بها وأن تفلت منه ببقية صالحة تحفظ عناصر الحضارة والأخلاق كما تصان الذخيرة المنتقاة من أنقاض الحريق
وأصحاب الرجاء في هذه العاقبة السليمة يعلقون رجاءهم على اختلاف الحال بين العصور التي سبقت زوال الحضارة فيما سلف وبين العصور التي نحن فيها والعواقب التي نحن منساقون إليها
ففي الأزمة الغابرة كانت غارات الهمج على الأمم المترفة هي المعول الأكبر الذي يضرب في أركان الحضارة ويقتلع العمران من أساسه، وكانت غارات الهمج مصحوبة بحال من العقم في القرائح والأفكار تصيب الفنون والعلوم بالفاقة والكساد والنضوب، فكانت تنقضي السنون وراء السنين ولا جديد في عالم التأليف ولا في عالم الاختراع ولا في عالم الفنون والآداب، وتلك في الوقع هي علامة الدثور والاضمحلال التي لا تزيدها الغارات الهمجية