(وبعد) فقد نزعت الهمة بنا إلى أن نجمع كلاماً فيما اختلف أهل البحث فيه لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى أو عادة أو ألف، ولا نبالي من مفارقة تظهر منا لما ألفه متعلموا كتب اليونانيين إلفاً عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أن الله لم يهد إلا إياهم، ولم ينل رحمته سواهم، مع اعتراف منا بفضل أفضل سلفهم (يعني أرسطو) في تنبيهه لما نام عنه ذووه وأستاذوه، وفي تمييزه أقسام العلوم بعضها عن بعض، وفي ترتيبه العلوم خيراً مما رتبوه، وفي إدراكه الحق في كثير من الأشياء، وفي تفطنه لأصول صحيحة سرية في أكثر العلوم وفي إطلاعه الناس على ما بينها فيه السلف وأهل بلاده، وذلك أقصى ما يقدر عليه إنسان يكون أول من مدَّ يديه إلى تمييز مخلوط وتهذيب مفسد ويحق على من بعده أن يلموا شعثه ويرموا ثلماً يجدونه فيما بناه ويفرعوا أصولا أعطاها فما قدر من بعده على أن يفرغ نفسه عن عهدة ما ررثه منه وذهب عمره في تفهم ما أحسن فيه والتعصب لبعض ما فرط من تقصيره، فهو مشغول عمره بما سلف، ليس له مهلة يراجع فيها عقله، ولو وجدها ما استحل أن يضع ما قاله الأولون موضع المفتقر إلى ما زيد عليه أو إصلاح له أو تنقيح إياه.
وأما نحن فسهل علينا التفهم لما قالوه أول ما اشتغلنا به ولا يبعد أن يكون قد وقع إلينا من غير جهة اليونانيين علوم وكان الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك ريعان الحداثة، ووجدنا من توفيق الله ما قصر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه. ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي يسميه اليونانيون (المنطق) - ولا يبعد أن يكون له عند المشرقيين اسم غيره - حرفاً حرفاً فوقفنا على ما تقابل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهة فحق ما حق وزاف ما زاف.