كان يوم رأيته آخر مرة في الحقل يبدو مصفاراً مضعوفاً لم تبق العلة في وجهه غير أثر ضَئيل مما كان يترقرق فيه من نضرة العافية، ولم يدع السقم في بدنه إلا بقية طفيفة مما كان يكمن فيه من فتوة الشباب؛ وكان يجيل الفأس في حركة أشبه بحركة الآلة البخارية نفد وقودها أو كاد فبدت كأنما أوهنها طول العمل
وألح عليه الداء فلم يبرح داره أياماً؛ وساورتني رغبة قوية أن أذهب لأعوده، ولم أكن أعرف موضع بيته من القرية فاستصحبت من يدلني عليه
مشيت دقيقتين أو ثلاثاً فيما يسمى القرية شارع (داير الناحية). ثم قادني صاحبي إلى حارة لا يزيد اتساعها على ثلاثة أمتار أخذت تلتوي، فأنعطف تارة نحو اليمين وطوراً صوب اليسار وأنا أمر على الجانبين بهاتيك المباني المتلاصقة التي تتشابه في كل شئ، في صغر منافذها وقلتها، وفي حجم أبوابها ووضاعة مظهرها، ثم في هذه الأقراص الجافة المتخذة من روث الماشية والمرصوص فوق هامتها كأنها الأكاليل!
ولم أكن دخلت من قبل داراً من هاتيك الدور البائسة، ولم أرى إحداها من الداخل إلا بالنظرة العابرة حين أمر بباب مفتوح من تلك الأبواب القبيحة التي تزين صدر كل منها ضبة أشد قبحاً منه
ووجدتني في فناء دار ذلك المريض الذي جئت لأودعه، وهو فناء لا يزيد اتساعه كثيراً على ثلاثة أمتار في مثلها، في ناحية منه مصطبة عليها جرة من تلك الجرار التي يحمل فيها الماء من الترعة؛ وإلى جانب المصطبة موقد من الطين أحسب أنه لم توقد فيه نار من زمن طويل فلا أثر للرماد فيه؛ وفي ناحية أخرى من الفناء وقفت جاموسة عجفاء هي أثمن ما في الدار من متاع، بل هي أصل ما في الدار من متاع، وعليها وحدها يتوقف ما فيها من معيشة. وكانت أرض الفناء إلا مساحة قليلة مبللة بالماء الذي ينساب إليها من فوق المصطبة حيناً ومن تحت الجاموسة أحياناً!
ودهشت زوجة المريض أن رأتنا وأخذتها ربكة حتى ما تجد كلاماً تقوله، وبدت الدهشة في عينيها وفي وجهها وفي ارتعاش أطرافها وتعثر خطواتها وهي تشير إلى القاعة التي يرقد