للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في محطة القاهرة]

للأستاذ علي طنطاوي

دخل (المحطة) في اليوم السادس من سبتمبر سنة ١٩٢٨ وخرج من (المحطة) في اليوم التاسع عشر من ديسمبر سنة ١٩٤٦

دخل من باب، وخرج من باب، وكانت المحطة كأنها النسخة المختصرة من كتاب الدنيا، وكأنها الصورة المصغرة لها: كل يركض إلى غايته، ويزحم بكتفه، ويدفع بيده، ويعتدي ويُعتدى عليه، والحمالون ينهبون أموال الناس ما استطاعوا، والناس يتقونه ما قدروا، والقطر تصفر وتزمجر وتملأ الجو دخاناً وشراراً، وتسرع لتفرق أحباباً، وتجمع أحباباً، وتريق دموعاً وتضحك أفواهاً، وكأن صفيرها لحن الوصال العذب لناس، ونواح الفراق الأليم لآخرين، وكان الباب يفتح أبداً ويغلق، والناس يدخلون ويخرجون، لا يلتفت أحد إلى أحد، ولا يسأل سائل أخاه عن آلامه ولا عن آماله، فهو يستمتع بمسراته وحده ويتجرع أحزانه بلا معين. . .

والمحطة كالدنيا تسعد وتشقى، وما تسعد المرء ولا تشقيه إلا نفسه وذكرياته. هذا يحبها لأنه دخلها في مسرة، واستقبل فيها الحبيب، فهو يذكر كلما مر بها، أو سمع صفير قطرها، تلك الساعة التي كانت عنده العمر، ساعة جاءه البشير بقدوم حبيبه فذهب إليها يكاد يطير من الشوق، وقام ينتظر القطار لا يستطيع أن يستقر في مكان، واستبطأ الوقت فهو يخرج ساعته كل دقيقة، يحسب الدقيقة من الانتظار دهراً، فيراها لا تتحرك عقاربها، حتى إذا صفر القطار وهدر خفق له قلبه، وغلى في عروقه دمه، فركض إليه، فلما أبصره رأى سواده نوراً مشرقاً لأنه يحمل الحبيب، وناره المتقدة برداً على قلبه وسلاماً، ودخانه ارق من النسيم العليل؛ ورآه بثقله أخف من الطيف الساري وأقبل يزاحم الناس، يطأ بقدمه حيث لا يدري لأن بصره معلق بالنوافذ ينظر الوجوه فلا يحفل بها ويبصرها كالسرج المطفأ، لأنه يريد وجهاً واحداً يراه مضيئاً بالسناء، حتى إذا وصل إليه وصل إلى السعادة. . . فهو يذكرها كلما رأى المحطة.

وهذه تكرهها لأنها عرفت الشقاء فيها، وذاقت غصة الحياة بين جدرانها، فقد كانت سعيدة حتى حل الوداع، ودنا السفر، وصحبته إلى المحطة، فوقفت معه، ثم سايرته إلى رصيف

<<  <  ج:
ص:  >  >>