للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

زنبل

بقلم الأديب حسين شوقي

إذا كان المسيو هريو الوزير الفرنسي الكبير قد أبدى لدى عودته من موسكو إعجاباً شديداً بروسيا الشيوعية في أحاديثه إلى مندوبي الصحف، فأنني أعرف كائنا ما كان ليشاركه في إعجابه لو كان حياً، وهذا الكائن هو قطتنا زنبل، لأن زنبل كانت أرستقراطية بحقيقة معنى الكلمة، ويحسبها نبلا أنها من مخدرات قصر يلدز. . وإني محدثك كيف آلت إلينا: كنا في الأستانة بعد خلع السلطان عبد الحميد، وكان أثاث القصر يباع يومئذ بالمزاد العلني، فذهبنا نشاهد ما عرض من طرائف التحف ونفائس الكنوز لأن شهرة يلدز بهذه العجائب لا تقل عند الناس عن شهرة مغارة (علي بابا) في الف ليلة ذهبنا إلى القصر على غير نية الشراء لأن والدي كان يعارض في ابتياع شيء من يلدز احتراماً لذكرى عاهلها المخلوع. وكان يجله ويرى فيه رمزاً لمجد الإمبراطورية العثمانية التي بدأ ظلها يتقلص فعلاً بعد سقوطه، ولكن ما كادت أبصارنا تقع على زنبل القطة الأنقرية الجميلة حتى وقفت لا تريم عنها انصرافاً. . وانقسمنا فريقين فريقاً من الصغار (نحن) يتمسك بالشراء، وفريقاً من الكبار يعارض فيه، وانتهى الخلاف طبعاً بانتصارنا، إذ كان لابد من إنقاذ زنبل من الحالة المهينة التي كانت عليها في تلك الساعة، فقد وضعت في قفص ضيق حقير ليشاهدها الرائحون والغادون. . فدفعنا الثمن خمسة جنيهات وحملناها معنا. . أما طرائف القصر الأخرى فكانت عادية لا تزيد على نظائرها في سائر القصور الملكية.

ما زلت أذكر زنبل خلال ضباب الماضي البعيد، وهي جالسة على مقعد من القطيفة في الصالون الصغير بمنزلنا القديم بالمطرية، ترتل أناشيدها في هدوء وطمأنينة. . وكم كان شعر زنبل جميلا يحاكي بياضه الناصع الثلج الذي يجلل جبال الأناضول وطنها العظيم، وكانت نعومة شعرها أشبه شيء بنعومة الزنبق.

أما عيناها فكانتا تعكسان ما تشاهده على ضفاف البوسفور من خضرة زمردية بديعة. .

وكان لحم كفيها ناعماً طرياً إلى حد إننا كنا نجد لذة في القبض على تلك الأكف الظريفة. .

كان صيد الفيران والصراصير من الأمور الحقيرة التي لا تتعرض لها زنبل، كما تفعل

<<  <  ج:
ص:  >  >>