شعر الفكاهة في ديوان المتنبي نادراً جداً، وليس ذلك لأن أبا الطيب لا يحتاج إلى الترويج عن النفس، أو أنه لا يدرك مفارقات الحياة، أو لا يحس التعبير عنها، بل لأنه ألزم نفسه أسلوباً جدياً صارماً فقضى عمره في كفاح عنيف متواصل يريد أن ينال لنفسه ما رسم لها من المناصب يأخذه غلاباً ويخوض له المهالك إن استطاع، قال لبعض الكلابيين وهم على شراب:
لأحبتي أن يملئوا ... بالصافيات الأكؤبا
وعليهم أن يبذلوا ... وعلي ألا أشربا
حتى تكون الباترا ... ت المسمعات فأطربا
وقال في رثاء جدته:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
أما منية المتنبي - كما كشف عنها في شعره - فهي ولاية يرأس بها الناس فتشبع نهمه للزعامة، وقد ضن بها عليه الزمان وقتل قبل أن يبلغها.
فالفتى الذي أغرى الناس بالثورة منذ صغره وصمد - منفرداً - لدرس الكاشحين وخصوماتهم في بلاط سيف الدولة يعز على نفسه الطموح أن تنصرف - إلا نادراً - إلى اللهو والفكاهة قبل أن يحقق مأربه الفخمة. فهو فتى قل أن نجد بين الفتيان من له استكباره لنفسه وصلابة همته واحترامه لذاته.
فهو شديد الميل إلى الجد، يريد أن يكون ممحدوحه متزناً وقوراً مهيباً؛ فقد ورد في ترجمة أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني للمتنبي أنه صده عن مدح الوزير المهلي (ما سمعه من تماديه في السخف واستهتاره بالهزل واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه، وكان المتنبي مر النفس، صعب الشكيمة، حاداً مجداً
وهو إذا ضحك فلا يريد أن يحمل ضحكه على فراغ القلب بل هو كتكشيرة الليث بداية شروفتك